د.فوزية أبو خالد
هذا المقال تتمة لمقال لم ينشر الأسبوع الماضي (ليس لقيام رئيس التحرير ونائبيه بالاعتراض على موضوعه ولكن لتناوله مواقف إشكالية عامة وشائكة مع شركة بعينها. فجاء الاستبعاد، كما قيل لي, وهنا قد يبدو واضحا أن مشكلتي في مقال اليوم ليس حجب مقال الأسبوع الماضي، ولكن المشكلة أنني كنت قد وعدت فيه القراء الذين لم يقرؤا ذلك المقال, بأن أعود لاستكمال الموضوع من خلال تأطير المواقف الميدانية الواردة في المقال باعتبارها قد تكون أمثلة حية على انعدام أي دور يذكر للقطاع الخاص في مسؤولية التنمية الاجتماعية.
وفي هذا السياق يكون المتوقع من هذا المقال بالبناء على سابقه تحليل تلك المواقف الإشكالية التي جرت على أرض الواقع بشهود عيان من قبل إحدى الشركات الكبرى المنتمية إلى القطاع الخاص, كعينة ميدانية لما يواجهه المجتمع السعودي والدولة أيضا من تقصير القطاع الخاص في واجب المشاركة التنموية.
والهدف المنشود من ذلك هو وضع ما يخال أنه مجرد وقائع يومية عادية من أشكال تقصير القطاع الخاص بحق المجتمع في السياق الذي نستطيع أن نعرف منه ما إذا كان الاستخفاف بحاجات الجمهور مجرد موقف طارئ يمكن غض الطرف عنه وكتم الغيظ فيه أو أنه (نمط معياري) لعلاقة القطاع الخاص بالمجتمع مبنية على ميزان عدلي مختل يقوم على الأخذ دون العطاء.. ولو صح الأخير، فإنه لابد من موقف نقدي لا يجامل هذه أو تلك من الشركات والمؤسسات أو يهادنها، لا لهدف إلا إصلاح أي خلل في علاقة القطاع الخاص بالمجتمع الذي يعمل فيه وبالدولة التي يعمل وفق أطرها القانونية وفي معظم الأحيان بدعمها السخي. فليس لوطننا أحد سوانا للإصلاح بكلمة نقدية صادقة.
فما هي بعض هذه المواقف الميدانية التي قد تشكل مؤشرات لعلاقة غير عادلة بين مؤسسات القطاع الخاص وبين المجتمع دون إعطاء امثلة على سلوك مؤسسات بعينها و(أمرنا لله). باختصار لا بد أنه مخل، يمكن ذكر بضع مؤشرات:
1- ضعف تدريب الكوادر الوطنية، وخاصة الكوادر الوطنية الشبابية في غير المناصب العليا وضعف إعداد كوادر العمل من النساء. وهذا الضعف ملموس في المجالين المعرفي المهني المختص بنوع الخدمات التي تقدمها الشركة او البنك وفي مجال ثقافة الديموقراطية والشفافية والعدل والإحسان في مجال التعامل مع الجمهور.
2- تعطيل الصلاحيات المعطاة للأقسام النسائية، وكأنها أقسام لم توضع إلا لذر الرماد في العيون (أي شوفوا شوفوا.. عندنا أقسام نسائية). وليس بما يكشف عن رؤية استراتجية بأن تمكين المرأة مهنيا وصلاحياتا في مجال توظيفها هو جزء عضوي من نمو المؤسسة أو الشركة.
3- التعامل بأسلوب على المتضرر اللجوء إلى الصمت أو «طق» راسه بالجدار في أي اعتراض على فاتورة مفرطة في الجور دون وجه حق، أو مراجعة في خطأ أرتكبته شركة او مؤسسة في حق عميل، خصوصا لو كان هذا العميل من فئة المواطن العادي الذي ليس له ظهر إلا الله.
4- الشكاوي أو المقترحات أو الإيميلات لا تأخذ جديا، بل هي واجهة إعلامية ليس إلا دون تمحيص.
5- مباني مؤسسات وشركات القطاع الخاص والبنوك على فخامتها ورخامها نادرا ماتكون مهيئة بخدمات صديقة للبيئة لا في استهلاك الكهرباء ولا الماء ولا التشجير ولا المواقف ولا المصليات التي قد يصل حشرها تحت بيت درج شركة فخمة. كما أنها ليست مهيأة بمداخل وأماكن صديقة لذوي الحاجات الخاصة. فحتى لو وضع على سبيل المثال (ممرا لعربة طفل أو معاق أو لمستخدمي عكازات أو عصا بيضاء) تجده (مكلكعا مرتفعا), ليس منه فائدة حقيقية في التيسير على ذوي الحاجة الخاصة بقدر ماهو مجرد منظر لإعطاء انطباع بأن (شوفوا شوفوا في مدخل خاص وهو يعيق أكثر من أنه يساعد)، هذا طبعا أن وجد مثل هذا المدخل أصلا.
6- ليس هناك الا باستثناءات ربما، رؤية ولا خطة ولا إدارة أو قسم ولاميزانية محددة بنسبة عادلة من مجمل الأرباح الكبيرة للشركات والمؤسسات والبنوك بالمجتمع السعودي مخصصة لبرنامج معتمد ومعلن في مجال المسؤولية الاجتماعية أسوة بنظيراتها من مؤسسات القطاع الخاص في مجتمعات الشرق والغرب.
مع ملاحظة أن انعدام المؤشر السادس من بنية مؤسسات القطاع الخاص سواء كانت بنوكا أو شركات له ارتباط عميق بكل ما سبقه من مؤشرات لدرجة يمكن القول معها أن (عدم وجود إدارة وميزانية وبرنامج ومدى زمني محدد لتحمل مسؤولية اجتماعية تنموية تجاه المجتمع وفي حق الدولة هو تعبير عن خلل بنيوي في تركيبة معظم مؤسسات وشركات وبنوك القطاع الخاص بالمجتمع السعودي أكثر منه مجرد مؤشر على القصور كغيره من المؤشرات.
على أنه من المهم لفهم الموضوع برمته ربطه بالإطار السيسيولوجي والإيبستمولوجي أي الاجتماعي والمعرفي الذي قد نستدل منه على المسببات والعوامل التي تجعل الغالبية العظمى من مؤسسات القطاع الخاص شركات وبنوك تحصر علاقتها بالمجتمع السعودي على علاقة ربحية لا تخلو من الفوقية والاستغلال بحيث أنها لا تريد أن تتعاطى لا مع جمهور العملاء ولا مع موظفيها من غير ذوي المناصب العليا وهوامير المساهمين ولا مع قطاعات التنمية الاجتماعية الا في الحدود التي تخدم وتُعاظم ربحيتها دون أن تقدم لا للدولة ولا للمجتمع أي ضريبة وطنية ولو رمزية.
إن اعتمادنا مجتمعا ودولة على النمط الريعي في سياسات التنمية وفي إدارة العلاقات السياسية والاجتماعية قد أعطى القطاع الخاص موقعا متعاليا أو انعزاليا إن شئتم على مفهوم العقد الاجتماعي الذي يفترض أن يكون المصدر الذي يعطي المجتمع بناء عليه لهذه المؤسسات مشروعتيها في الإطار القانوني للدولة كما يعطيهاأحقية العمل والكسب ليس فقط إزاء ما تقدمه من خدمات في مجالات الاختصاص (اتصالات.. بنوك.. تسويق.. تصنيع...) بل وأيضا في مجال التنمية المستدامة تحديدا. لقد عملت عدد من المجتمعات المتقدمة بناء على تحرر قواها الاجتماعية من تلك العلاقة الاعتمادية المعيقة على الدولة على تطوير معاييرا محددة لقياس درجة الاتقان وحسن الأداء ومستوى الجودة داخل مؤسسات القطاع الخاص، حيث تعتبر المشاركة في مسؤولية التنمية الاجتماعية المستدامة واحداً من أهم هذه المعايير العالمية اليوم، سواء تنمية الكوادر داخل المؤسسات والبنوك والشركات أو تجاه المجتمع. ويدخل في هذا الباب نشر ثقافة الإنتاج وثقافة تمكين الشباب وتمكين النساء وتمكين أي من قوى التحدي الاجتماعي، نشر الوعي البيئي والعمل على حماية البيئة من كافة أشكال الهدر والتلوث وتطويرها، نشر ثقافة المراقبة والمحاسبة وثقافة الشفافية والديموقراطية، نشر الثقافة الإبداعية والمعرفية بما فيها الفلكلور والأدب والإعلام الرقمي الجديد، ونشر ثقافة السلام والحوار.
والسؤال هنا: إلى متى تبقى البنوك والشركات ومؤسسات القطاع الخاص الربحية في منأى عن المحاسبة على تقصيرها الفادح في مجال المشاركة الوطنية للقيام بمسؤوليتها الاجتماعية في التنمية الاجتماعية ؟؟
يعني إلى متى يستفيدون منا: لاضرائب تفرض عليهم، ولابرامج تنمية ولا مايحزنون من البنوك إلى شركات الدعاية والإعلان والاتصالات، بينما لا يفيدون المجتمع إلا بتقديم خدمات هي لمنفعتهم وزيادة ربحيتهم باستعلاء و»عنظزة» ولا نخلص من «هياط» بعضهم بمساعدات الجمعيات الخيرية التي أغلبها من مال الزكاة.