د.ثريا العريض
حظيظون نحن بامتداد وطننا تاريخيا وجغرافيا وثقافيا. وواجبنا إحياء ميراثه الجميل. التعددية الثقافية والتنوع في موروثات المناطق فنياً وبيئياً تركت لنا مخزونا ثقافيا ثريا من سمات وبصمات خاصة بكل منطقة في ملابس و أكلات و رقصات و طرب وحرف يدوية و تلون معماري مرتبطة بالبيئة الأم.
و في حين أن الصورة النمطية المتناقلة خارجيا عن المملكة تكاد تنحصر في الخيمة والجمل و البيئة الصحراوية البدوية بمضاربها ودلال قهوتها وإبلها و قوافلها, إلا أن ما عرضته علينا المهرجانات وضح من جماليات امتداد الوطن ما لم يكن سابقا معلومة عامة إلا لمن زار هذه المناطق شخصيا.
جماليات إرث جبال السروات وحواري مكة والمدينة و عراقة البيوت الأثرية في جدة تتنافس مع المعمار المميز في مرتفعات عسير ووديان الجنوب وسواحل جازان وفرسان. و مواسم الرطب و التمر في مزارع القصيم والخرج و الإحساء تتنافس مع مواسم جني ورد الطائف و رمانه، و مانجو جيزان و زهور تبوك بمزارعها الشهيرة.
كل ذلك يقدم نسيجا متنوعا من موروث المناطق في الجهات الأربع.
لعل مهرجان الجنادرية كان أول خطوة نفذت رسخت فكرة الفخر بالتنوع الثقافي ومتعة معايشة التفاصيل. ثم جاءت جهود تنمية المناطق فجعلت الاحتفاء بالفن مرتبطا ببيئة محلية وليس مجرد تقليد للمدارس الفنية الأجنبية نقلا مجردا من الروح و النفس المحلي. و ها نحن الآن نرى كل منطقة تعود إلى صناديق الأصالة لتخرج حليها و تحيي ذاكرة الأجداد و مواسمهم.
عن بعد كنت أتابع تفاصيل الاحتفاءات عبر ما تنقله القنوات الأولى والثقافية والإخبارية والاقتصادية. قبل قليل عشت أجواء الرقص الفولكلوري التراثي في المنطقة الجنوبية، كاد يصلني عبير الورد و الكادي في أكاليل الرؤوس وأنا أتأمل خطوات الرقص و أسمع الأهازيج برتمها المختلف وأدقق في الجنبيات والأحزمة وألوان قمصان وإزارات الرجال الملونة التي فرضت طبيعة المنطقة الجبلية قصرها حيث مهارة التسلق متطلب حياتي. تختلف عن رقصة المزمار في الساحل الغربي والملابس و العمائم المرتبطة بها, و عن عرضة نجد بأرديتها المقصبة وسيوفها المشرعة وعن يا مال البحارة و صيادي السمك في سواحل الخليج بمآزرهم الخفيفة.
استمعت بتركيز الى شرح جد وقور وهو يجيب أسئلة مقدم البرنامج ويشرح خلفيات الكلام في الأغنيات وممارسات الأعراف والتعاملات المتعارف عليها في الزيارات و الاحتفالات و إظهار الاحتفاء بالزائرين.
كم هو راق هذا الإرث الحضاري والفن وكم هو ضروري ألا يندثر.
هذا التراث الغني في كل منطقة من مناطق الوطن جميل, ويجب أن نراه و أن يوثق و يسجل و يستعاد لنعايشه في كل مهرجان ليكون الشاهد الفصيح البليغ على أن توحيد المملكة لم يقض على تاريخها الثري و لم يستبدله بخصوصية الانغلاق والتشدد وخنق الفرح, بل فتح مجال الانتماء بفخر لحضارة الأجداد وأصالة وبساطة ونقاء معيشتهم، وأشرع شرفات التواصل بين الماضي والحاضر.. الأصالة و المعاصرة.
أشكر الجهود الجبارة التي بذلتها الجهات الرسمية المعنية وزارات و إمارات و فرق تنظيمية.. وبالذات الأجهزة الإعلامية و القنوات التي نقلت كل هذا الجمال إلى من لم يستطيعوا السفر لمواقع المهرجانات وتابعوها مثلي عبر أجهزة التلفزيون.
بعد أسابيع من المهرجانات الثقافية الناجحة في شتى مناطق المملكة والإقبال عليها من مئات الآلاف من الزائرين المواطنين و المقيمين من كل الأعمار لا يمكن أن يشكك أحد في مدى تعطش البلد للنشاطات الترفيهية الراقية.. أو يصدق خرافة أن الخصوصية السعودية هي الاكتفاء بكل ما يتعلق بالموت والعنف والفناء.
كل موسم و أنتم بخير.. وكل نشاط ومعنى الوطن يتضح حين تصافح فرحة الجيل الشاب ذاكرة الأجداد, وثراء مخزونها فناً و تلوناً بيئياً.