عبدالعزيز القاضي
يا رب تهديني قبل لحظة الفوت
وتغفر ذنوبي يا كريم العطايا
- متعب التركي
في فترة المراهقة العقلية تتفتح أزهار العمر لتعلن نضج الجسد وبداية التعامل مع معطيات الحياة، فترتفع الأنا، وتزدهر النرجسية، ويبدأ عشق الروح، وتتضخم أوداج الفخر، فيشعر المراهق في قرارة نفسه بأنه فريد في مواهبه وقدراته وقوته أو جماله أو ذكائه، فيدفعه هذا الشعور إلى استعراض إمكاناته وقواه المختلفة. والشعور بالتفوق له مظاهر تختلف من شخص لآخر حسب الميول والاستعدادات النفسية والفسيولوجية.
ومن مجالات المظاهر الاستعراضية لدى بعض المراهقين التفاخر بالشاعرية، حيث تسوّل لبعض المراهقين أنفسهم بأنهم أشعر من امرئ القيس وابن لعبون، ويحسبون أنهم يقرضون الشعر وهم في الحقيقة يقرضون الشعير. وهذه المرحلة النفسية طبيعية في حياة الإنسان، وتمر بها كل نفس تنمو نمواً طبيعياً، لكنها تتحول لحالة مرضية إذا امتدت بصاحبها ولازمته وأبت منه الفكاك. وقد تنفك منه نفسياً لكنها تمتد معه عقلياً، فتذبل أزهار النرجسية وتخف حدتها قليلاً لكن تظل أشواك الجهل وضيق الأفق تحاصر عقل صاحبها مدى العمر، فيظل يدور في فلك ثقافته القديمة. والإنسان الذي لا تتغير اهتماماته الفكرية والترفيهية وتتطور، ما هو إلا ميت يتنفس.
والشعر موسيقى وروح، والشاعر من يستطيع الموازنة بينهما في شعره وقليل ما هم، أما المتشاعر فهو من يقبض على الموسيقى ولا يستطيع أن يخلق الروح في جسد القصيدة، ولهذا فمن بين ركام الشعر وزحام الشعراء والمتشاعرين قلما تجد الشعر وقلما تجد الشاعر ..
هناك شعراء نظموا مئات وربما آلاف الأبيات والقصائد، لكن لا تكاد تجد لهم بيتاً واحداً يحرك المشاعر وتهتز له الأعطاف طرباً وإعجاباً، بيتاً يلخص حالة شعورية إنسانية، روحية أو أخلاقية. وفي المقابل هناك شعراء ليس لهم من القصائد والأبيات إلا القليل، لكن هذا القليل جميل ممتع مؤثر متداول بين المتذوقين، وحاضر في أذهان الكثيرين لجمال صياغته أولاً، ولمعناه المؤثر ثانيا، ولاتساع مداه وخروجه من الشخصي إلى الإنساني ثالثا، وهذا هو ما يسمى (الشعر الخالد)، وسبق أن تحدثت فيه منذ سنوات هنا.
وإذا كان «الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة» كما يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن الشعراء كذلك. فهناك شاعر إنساني حقيقي، وهناك شاعر استهلاكي يموت شعره بانتهاء سماعه أو قراءته.
ومن النوع الأول الشعراء الخالدون كابن لعبون والعرفج ومحسن وابن سبيل والعوني وغيرهم، وفي هذا الزمان وعلى الرغم من كثرة الشعراء، تبرز أسماء لامعة حقاً، متوهجة بأضواء إبداعها لا بأضواء الإعلام التجاري، نذكر منها المرحوم ابن جدلان ولافي الغيداني والمرحوم عبدالله العليوي.. وغيرهم كثيرون. ومنهم أيضاً صاحب بيت السياحة أعلاه الزميل والصديق الشاعر المعتزل كلياً أو جزئياً الأستاذ (متعب التركي المطيري).
ولأبي فهد ديوان جمعه قبل ما يقارب العقدين الأخ زعال خلف الخشرم (من رفحا)، وهو أحد المعجبين بالشاعر، جمعه واجتهد في ترتيبه، وجعل عنوانه (الموت هيّن) وهو بداية قصيدة مطلعها:
الموت هيّن والبلا وش ورا الموت
عند الحساب يهون سهم المنايا
وهي القصيدة التي جاء فيها بيت السياحة أعلاه، لكن هذا الديوان لم يُطبع بل تم توزيعه وتداوله على نطاق ضيق، وقد أهداني الأخ زعال مشكوراً نسخة إلكترونية منه وأخرى مطبوعة في مذكرة على ورق A4 قبل أكثر من عقد من الزمان، بطلب من أبي فهد بعد ما لقيه مني في سالف الدهر من إلحاح على طلب قصيده.
وفي عام 2014 تم طبع الديوان بمبادرة جميلة من مؤسسة (مبادرة: حمدان بن محمد للإبداع الأدبي) في دولة الإمارات العربية بعنوان (صفحة الماضي). لكن الديوان لم يضم سوى خمس وثلاثين قصيدة، والحق أن كل قصيدة تعادل ديواناً أو دواوين. ويبدو أن أبا فهد استجاب للمبادرة من باب الذوق والتقدير، وإلا فعلمي به أنه غير راغب في طبع الديوان من قبل، وقد لمحت هذا في حديثه الهاتفي قبل أكثر من عام عندما أخبرني أنه سيرسل لي نسخة من الديوان الجديد.