حمّاد السالمي
من أجل تحقيق قدر مناسب من المقاربة الذهنية لفكرة التشييء التي ظهرت عند فلاسفة غربيين في قرون خلت؛ ثم راج الكلام عليها في عصرنا من خلال طروحات مفكرين غربيين وعرب، وعلى وجه خاص من المغاربة والجزائريين؛ فإني سوف أبتعد قدر الإمكان عن الطروحات الفلسفية التي يحتاج فهمها إلى متخصصين في هذا العلم.
* لنبدأ أولًا بمفهوم الشيء عندنا في التصور العربي العام. إن المخلوقات تنقسم إلى قسمين: حية وجامدة. والحية منها العاقل مثل الإنسان، ومنها غير العاقل مثل فصيلة الحيوانات. إن كل ما في الوجود من ماديات في معظمها جامدة غير حية هي (أشياء). الإنسان وحده والحيوان في المفهوم اللغوي العربي لا تنطبق عليه صفة الشيء. لا يقال مثلًا الشيء فلان من الناس. أو يُشيّأ لغة: (جمل وأسد وكلب وقط)، وخلافها من حجر وشجر وكل جامد ومادي؛ هو الذي يُشيّأ في لغة العرب.
* مفهوم (تشييء الناس)؛ هو مفهوم فلسفي في بداياته، ثم اجتماعي واقتصادي وأدبي فيما بعد، لا لغوي في أصله، حتى وإن احتفت به لغات غربية مؤخرًا.
* الشيء لغة: ما يصحُّ أن يُعْلَم ويُخْبَر عنه. وقيل كلمة تدلّ على كلّ ما هو موجود وكلّ ما يمكن تصوُّره، سواءٌ أكان حسيًّا أم مَعْنويًّا، حقيقيًّا أم ذِهْنيًّا. والجمع أَشْياء. ممنوع من الصَّرف. وهو اسم لموجود حِسِّيّ غير محدَّد.
* أما التَشيُّؤ في الإنجليزية: reification ( رييفيكيشن )، فهو يعني: ( تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء. علاقات آلية غير شخصية، ومعاملة الناس باعتبارهم أشياء مجردة ).
* ماذا يجري للإنسان إذا تشيّأ..؟ يقولون: بأنه سوف ينظر إلى مجتمعه وتاريخه من ( نتاج جهده وعمله وإبداعه )؛ باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة (المادية). تُفرَض على الإنسان فرضاً من الخارج، وتصبح العلاقات الإنسانية أشياء تتجاوز التحكم الإنساني، فيصبح الإنسان مفعولاً به لا فاعلاً، يحدث ما يحدث له دون أية فاعلية من جانبه، فهو لا يملك من أمره شيئاً.
* إن قمة التَشيُّؤ هي تطبيق مبادئ الترشيد الأداتي، والحسابات الدقيقة على مجالات الحياة كافة. ومن مظاهر ذلك ودلالاته التي نعيشها اليوم: ظاهرة التسليع التي شملت حتى البشر - بيع وشراء لاعبي الكرة المحترفين مثالًا - ووقوع الناس تحت سيطرة الميول الاستهلاكية والشركات الكبرى، وانحيازهم لجانب الثورة المعلوماتية وقنوات التواصل الاجتماعي. وتأتي قمة التشيؤ؛ في تحول الإنسان في حد ذاته إلى رقم مجرد. إنّ الدلالة الممكنة لمعرفة الشخص نفسه أو التعرف عليه من غيره من اليوم فصاعدًا؛ هي في الأرقام التي تمثله، وليس في شكله، أو اسمه، أو عرقه وفصيلته.
* ويمكن القول ببساطة شديدة بأن: التَشيُّؤ هو أن يَتحوَّل الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء، فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء.
* أما التشييء - كما يقول بذلك مفكرون غربيون - فهو: (العملية التي يتم بموجبها جعل أي مفهوم تجريدي موضوعيًا بأكبر قدر ممكن في أبسط أشكال المصطلح. كما أنه يتم النظر إليه كذلك كما لو كان شيئًا راسخًا أو ماديًا. وفي هذا الإطار؛ يكون المصطلح مرادفًا لمصطلح التحويل إلى أدوات ). وإذا تعلق الأمر بالناس، فهذا هو التحوُّل الخطير الذي بدأ مع الحداثة والثورة الصناعية، ثم الثورة المعلوماتية المعاصرة.
* نصل هنا إلى مربط فرس التشييء؛ الذي يمس بصورة رئيسية فكر الإنسان وعقله وسلوكه وقيمه ودرجة تحكمه في إرادته وقراراته في الحياة. فمصطلح التشييء هنا؛ يستخدم كذلك لوصف التعامل مع الإنسان كشيء، مع تجاهل شخصيته وأحاسيسه. وللفيلسوفة ( مارثا نوسباوم ) رأي تفصيلي في موضوعية مصطلح التشييء. تقول: إن الشيء يكون موضوعيًا في حالة وجود أي عامل من العوامل التالية:
1- التعامل مع البشر كأدوات: إذا تم التعامل مع الشيء كأداة لتحقيق أغراض الشخص نفسه.
2- رفض الاستقلال الذاتي والجمود: إذا كان يتم التعامل مع الأمر على أنه ينقصه الوكالة أو حق تقرير المصير.
3- الملكية: إذا كان يتم التعامل مع الأمر كما لو أنّ شخصًا آخر يمتلكه.
4- البضائع المماثلة: إذا كان يتم التعامل مع الشيء على أنه قابل للتبادل.
5- إمكانية ارتكاب العنف: - إذا كان يتم التعامل مع الشيء على أنه مسموح به التلف أو التدمير.
6- رفض الذاتية: إذا كان يتم التعامل مع الشيء كما لو لم تكن هناك أية حاجة إلى إظهار الاهتمام بمشاعر وخبرات (الشيء).
* وفي نهاية المطاف؛ فإننا أمام حقائق جديدة فرضت نفسها بنفسها، وتتعلق بتركيبة قيمية نفسية أخلاقية معاصرة للإنسان.
* من الواضح إذن؛ أنّ مفهوم التشيؤ أو الشيئية التي تقود التحوُّل البشري بقوة مادية بحتة؛ هو النقيض لمفهوم الإنسان الحر سيد الأشياء التي تحكم قبضتها على حركة الحياة. يقول أحد المفكرين: (إنه صراع الأضداد - صراع المفاهيم - الاستهلاكي المادي مقابل الروحي - سلطة الشيء في مواجهة سلطة الإنسان - العلاقات الشيئية تقابل العلاقات الإنسانية - القيمية الشيئية ونزعة التملك والمقايضة مقابل القيمية الإنسانية).
* ولنا أن نتساءل بعد ذلك: ماذا يتبقى للإنسان المُتشيء أو المُشيّأ في هذا الكون؛ من ميول، وأحاسيس، وإرادة ذاتية، ورغبات نفسية، وقيم، وأخلاق، وخيارات حياتية، وقدرة على المبادرة والإبداع؛ بدون تدخل خارجي..؟
* الإنسان شيء. الناس أشياء. لكل شيء ضريبة؛ حتى العلم له ضريبة يدفعها الناس من حرياتهم وذواتهم؛ التي أصبحت على محك الشيئية.