د. حمزة السالم
بين استجلاب السرور ودفع الألم، يكمن تفسير سلوكيات البشر جميعها، سواء أكانوا أفراداً أو مجتمعات. فتحقيق السرور ودفع الألم هو أصل الكفاح الإنساني من أجل استمرار الحياة وقيام المجتمعات. ولذا، أُعطيت النفس قوة غير محدودة لتتغلب على قوة جسدها وعقلها المحدودتين. فقوة النفس خفية لطيفة، كقوى السحرة والمشعوذين. ما هي إلا الخيال والمخادعة وخلق الوهم.
فالنفس تغشى على العقل بخدع منوعة من الحيل، ليفهم بخلاف المفهوم. وتُخيل للبصر، ليرى ما تشتهي النفس، وتوهم البصيرة لتدرك معكوس الحقيقة. ومن ذلك، ميل الأم لوليدها، وتحاسد الأنداد، وسوء اختيار الأقران وتنافس المجتمعات.
ومن هذا ما وضعه العلم التجريبي الحديث من ضوابط التجربة التجردية، لكيلا يميل العالم لا شعورياً، لما يدعم نظريته وقوله. وكم تعجبت من شيخ ورع تقي، يتجاهل ويتحامق ويُقحم بالفرية على الله يخوضها كاذباً عليه، لكيلا يخالف الفتوى. فنفسه تخادعه وتُخيل له لتحمي ذاتها ولِذاتَها من تبعيات المخالفة. وكم وقفت متأملاً لذكي يتغابى، فما عاد يقدر على فهم ما هو مفهوم بالضرورة. فنفسه تخادع عقله بفهم مغلوط، ليبرر به زيادة عدد أو نقصان رقم، ليحصل بذلك على نتيجة مرضية في عمل ما.
وسلوك الإنسان فطري نابع من صفات فطرية تولد مع الإنسان، لا يستطيع تغييرها، كما لا يستطيع تغيير لون بشرته وطول قامته. فهو في هذا كالحيوان، اللهم إن نوع الحيوان الواحد لا تختلف صفاته بينها ولا تتفاوت كثيراً في شدتها. بينما الإنسان يختلف في صفاته وتتفاوت شدتها، حتى بين الأخوين. فترى أحدهما شديد الكرم والثاني شديد البخل، وقد تتهور المرأة شجاعةً ويرتعد أخوها جبناً. ويقتل الجندي نفسه وفاءً دون شبر من أرض بلاده، ويبيع قائده البلاد كلها خيانة بشهوات نفسه ولذاتها. فتأتي النفس لتخادع العقل ولتخيل للبصيرة ولتوهم المشاعر، لكي توافق خِلقَة هذه الصفات الفطرية، وتتصالح معها. فلولا خداع النفس ما صبر موتور ولا مغدور ولا تجمل معسور وما كتم تهوره شجاع. ولولا تزيين النفس، ما عاش بين الناس جبان ولا بخيل ولا خائن.
وفهم النفس يؤدي لضبطها قسراً وجبراً لا خياراً وطوعاً. فلا يستطيع الرجل أن يظلم، إن غلب نفسه، ما لم يكن خلقه عدواني بالفطرة. ولا يستطيع اقتراف فرية أو خيانة ما لم يكن خلقه خسيساً فطرة. بينما قد يظلم الرحيم المسالم العادل، ويخون الأمين ويفتري الصادق، وكل ذلك بخداع النفس وتضليلها، فلا يدرك عقله ظلمه أو خيانته أو فريته.
والنفس متى تروضت، خضعت خضوعاً أبدياً حتى مماتها. وترويض النفس ترويضاً شمولياً، يحتاج لزمن تدور فيه جولات وصولات بين النفس والعقل الفطن، تكون الغلبة النفس فيها دائماً. لكن جراح العقل لا تزول من الشعور، فإذا تتابعت الجولات والصولات، حفزت الجراح العقل فغلب بعد جولة عنيفة أو جولتين. فيسود العقل حينها سيادة مطلقة وتخضع النفس فتصير هي المسود.
وترويض النفس كلياً أمر نادر بين البشر. وإنما ما نراه من الحكماء والفطناء هو ترويض جزء منها بعد صولة يسود العقل بعدها على النفس في تلك الجزئية دون غيرها. فانقلاب الرشيد على البرامكة، قد يكون من وقفة صال عقل الرشيد على نفسه فغلبها فرأى حقيقة البرامكة، فقتلهم. وقد يكون بعكس ذلك. فتكون نكبته للبرامكة من غشيان النفس للعقل، فغابت عنه الحقيقة وعميت بصيرته عن إدراكها. فأصبح فؤاده متعطشاً لفرية أو وشاية ضدهم، فلما جاءت شربها حتى الثمالة. وشبيه لمثل هذا قال المتنبي: «إنما تنجح المقالة في المرء إذا وافقت هوى في الفؤاد».
ونادر هو من البشر من يقدر على ترويض نفسه بجميع جزئياتها. ولا يحصل ذلك منهم اختياراً، إنما بقدر مُقدرٍ لهم، لم يحسبوا له حساباً. فغلبة النفس خفية لا يشعر بها الإنسان، وإن كان الفطين يراها كثيراً في غيره.
ومن تروضت نفسه، استوعب عقله الحقائق حينها جبراً لا خياراً. فصار بصره يرى الحقيقة وأذنه تسمعها جِبلة وتتحسسها مشاعره.
ومن أدرك الحقيقة، تحرر من سجن التبعية الرهيب. فإن كان ذا علم وذكاء سابق انطلق فكره في مجالات الإبداع الشاسعة. فصار عبقرياً مفكراً. وإن كان بسيطاً درويشاً عاد زاهداً متنسكاً. فمن أدرك الحقيقة، اغترب في جيله وتنكرت عليه دياره واعتزله قومه. فإن عاش بينهم يجادلهم بحقائق فكره، مقتوه واتهموه فقتلوه أو سجنوه. وإن اعتزلهم تنسك في بيته، أو ارتحل عنهم غريباً، ففي كلا الحالين فإنما هو ولوج لسجن وحدته، وسيعيش وحيداً ويموت وحيداً. فما التحرر من سجن التبعية الرهيب إلا ولوجٌ لسجن الغربة العتيد. فالإنسان أبداً سجين حياته، ما دامت نفسه سجينة جسده، فإذا فاضت، فأمرها للقاهر الغلاب سبحانه هو أعلم بها.
وللحديث بقية..