د. خيرية السقاف
لا تزال الأسئلة الأزلية تحوك في صدر الإنسان مذ يفتح عينيه, يتابع سحابا يتحرك في الفضاء, و صوتا يخرج من حنجرته, وكيانا له يجهل خفاياه, ويتنبه إلى أنه لا يشهد مجرى الدم في عروقه..!!
أسئلة الإنسان الأزلية لن تمْحُها حُقب السنين تمضي به يتعاقب سلفُه خلفَه على الأرض,
تذهب به دول, وتأتي أخر, ويدفع الله أقواما بأقوام حتى لا تفسد الأرض..!
فالإنسان إن تكتل بشعوبه, وقبائله دون فناء يُفسد الأرضَ,
وهو في البداية مضغة لا حول له ليدرك مبتدأه, وهو في النهاية جثة لا يشعر بمن يحملها..
أسئلة الصغار البريئة قدر سعة حيرتهم, وبما في بوتقة تكوينهم تتراكم, يعجنونها كلما كبروا بما يعون في قوالب نواياهم بما يريدون كلما اتسعت حواسهم, وتعمقت شحناتها..
وتبقى الأسئلة ديوانا يضخ بمفرداته, ويعيد تدويرها في صدور السائرين في البراري, وتحت السُّقف, وعند المنابع, وفي الأدغال, وفي محاضن الأمهات, وفي ساحات اللعب, وميادين الجري, وظلال الضحكات, وعند الجرح يؤلم, والخوف يُرجِف, والفرح يُرَقِّص, والحزن يُبكي..
عند النداء فالأصداء تتردد, وعند الهبوب فالتوقعات تتوالد, وعند الدهشات فالمخيلات تتمخض,
مع الشهيق وهي تبث في الضلوع حركة, وفي دبيب العاطفة وهي تفوض عنها الوجيب, وفي الفكرة وهي تلوب في قاع لا مدى لكنهه, ولا ملمس لجزئه,..
أسئلة الإنسان الأزلية منذ الأبد شغلته ولم تبدده, منحته ولم تطمسه, حرَّكته ولم تُحبطه,
هي وراء حماسه ليكتَشِف, ووراء عطشه ليرتوى, ووراء نهمه ليَشبع,..
وهي وراء دخيلته لتفيض, وهي دافع فعله لئلا يقيض, وهي مُوقِـدة نهمه ليستزيد..
الإنسان يغوص في لجي أسئلته, فلربما كان ربانا,
حين لا يضل عنها, أو يتيه في ملكوتها, فيصيد إجاباتها, ويغزل بها نسيج مساره..!
فشاطئ البعيد قريب عندما تكون الأسئلة مركبه ..!
والقمة تتدنى حين تكون الأسئلة سُلَّـمه ..!
لا يتمايز الإنسان عن الإنسان إلا بأسئلته,
بمدى احتوائه لها, بتثمينه قيمتَها, بالعناية بحضورها, والبهجة برفقتها ,
ذلك لأنها الحاضرة معه مذ تستقيم قدماه على الثرى,
مذ تبدأ رحلة مخيلته نحو أبعاد.., وأبعاد
بمدها, وخصبها, ووفرتها..
فمدد الفكر نطفته الأولى سؤال, ومولوده البكر إجابة..
فالأسئلة في النفس تلوب, خلاقة الشغف لإجابات تنمو, تتوالد, تفيض , تكبر وتتشعب,
وتتجدد ما سار وهي في رفقته أزلية ,دائمة..
ديدن الوجود, والعلامة الفارقة للمشتَرك في الإنسان..!!
والبوابة الكبرى لمساراته, مبتدأها ومنتهاها..
فدعوا الصغار يسألون..
يسألون ما يشاؤون..!!
واصنعوا لهم قوارب من ورق, حمِّلوها معهم بأسئلتهم,
واطلقوها معهم في أحواض ماء..!!
دعوهم يحركونها, ويضحكون,
فهم يعبئون ويختزنون ..!
ووحدهم في الغد بأجنحة إجاباتهم سيحلقون في آفاق آمادها, ويفعلون..!!