أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: فلسفةُ إرساءِ القيمة للوجود البشري، وبناءُ صَرْحِها على العبودية لنازعِ الشهوة والحيوانية الذي سماه الوجوديُّون قانوناً، ولقد مضغ بذاك لسانَه أكثرُ من ماسـوني مأفون كالمُهرطق الصغير (سبينوزا) في كتابه رسالة (اللاهوتُ والسياسة).. وبناءُ صرحِها أيضاً على الانعتاق من تاريخ البشرية.. أعني محصَّلةَ العقل البشري من تجارب الأجيال؛ لتبدأ مسؤولية الوجودي من فراغ؛ أو قل من الحيوانية الفردية الحائفة على توازن الفطرة المُنكرةِ تربيةَ المُرسلين والمُصلحين؛ ومن كان هذا شأنه فهو عبد الاستعمار ومطيَّتهُ!!.. وهذه الفلسفةُ هي فلسفةُ الغثيانِ؛ وهي أيضاً فلسفة النفاق الفكري؛ لعجزها عن تسويغٍ معقول يُوَفِّق بين دَعْوَيَيْ الحرية والمَسؤولية توفيقاً يدُلُّ على حسنِ نية فكرية!!.. وهي فلسفة الصهيونية؛ لأنها إيعادٌ بكل نبوآتِ التلمود، وأناجيل الصهاينة السياسيين الذين يرتقبون المِسْيا والدولة العالَمِية اليهودية الواحدة على أنقاضِ الدين، والتزهيدِ في العلم، والصد عن الأخلاق، واعتبارِ الدين والخلقِ مجردَ نشاط ذهني أو عاطفي كالشعر!!.. وبناءُ وجودِ الفرد على الشهوة والحيوانية مِمَّا يزيد رصيده من الاستلاب والضياع والغربة والغثيان والقنوط ونُواحِ الأنانية الممزّقة؛ وهي فلسفة الإلحاد؛ فلا مجال لدعوى وجوديةٍ مؤمنة؛ وأما فلتاتُ: (اعرف نفسك بنفسك) كما أطلقها (سقراط)، وأما سيادة النفس في الانتصار على أهل التسفسط كما عبر بذلك (الرواقيون)، وأما الإثراءُ من معين النفس عقلاً ووعياً ووجداناً، وأما التعمُّق في أغوارِ النفس باعتبارها إحدى جُزْأيْ الطبيعة المَخلوقة.. أما كل ذلك: فهو أبْعدُ ما يكون عن الفلسفة الوجودية وإن اتَّخَذَتْه شعاراً؛ لأنها عند التفلسف أخذت نازعاً نفسياً واحداً هو حرية الشهوة!.. إن الفِكَر ـ جمْعَ فِكْرَةٍ ـ، والظنونُ، والمُغالطات التي كوَّنت فلسفةً وجودية: لا مجال فيها لوجودي مؤمن.. إن الوجودية ببنائها الفلسفي والإيمانَ: نقيضان.. اذكروا من الوجوديّْيِيْن المُؤمنين بزعمهم العالِمَ الرياضي الفرنسي الوجودي (بسكال بليز)؛ وهو قبل (سارتر) بقرنين ونصف؛ فقد كان يزعم أنه لا ينكر خالقَ الوجود؛ لأنه لا ينكر رؤية شيءٍ يدل على وجوده.. وفي الوقت نفسه لم يَرَ في الوجود ما يريح إيْمانه بخالق الوجود!!؛ لهذا فهو في حالة وجود تستحق الشفقة!.. فهذه كلمة وجوديٍّ يدَّعي المدَّعون أنه من اوجوديين المُؤمنين؛ فأيُّ إيمان كهذا.. إنه دعوى إيمانٍ يعوزه اليقين ؟!.. أجل.. إن مكسب الوجودي أن تتَّخم النفس البشرية بشكٍّ كشَكِّ (بسكال)؛ ومن ثم فلا فرق بين إنكارٍ بوقاحة وبين إنكارٍ بمَضغ الكلام وأنوثَةِ العصر؛ وتلك نحلة تفرَّد بها المَغضوبُ عليهم من اليهود المَلاعين ومن ضاهاهم في لَبْسِ الحق بالباطل؛ فقد لبَّسوا الإيمان بالكفر قديمَاً، ولا يَزالونَ يَمْزِجون العلمَ والدين بالخرافة؛ وقد أغرقوا الكرة الأرضية بمئات الفلسفات التي تتكحل بالعلم وهي في دمامة القرد والخنزير والسَّعلاة.
قال أبوعبدالرحمن: وفي رسالةٍ ل (جارودي) طبعها رياض الريِّس: (أن الطُّرُقَ كلها توصِّل إلى روما، وأن كل تعبُّدٍ لله يُقصد به وجهُ الله فهو طريق صحيح موصِّل إلى رضوان الله، مُنْجٍ من عذابه)؛ وهذه هي ديانة (جمال الدين الأفغاني) في كلامه عن أديان الشرق؛ ومن هذا المنطلَق طُرحتْ عليَّ هذه القضية كثيراً: (هل يحاسِبُ اللهُ مَن لم تبلغه الدعوة في أطراف المَعمورة) ؟!؛ وهذا دعْوَى معدوم؛ ومن المعلوم أن جمهور السلف يُحيلون دعوى أن الرسالة لَمْ تبلغ أحداً؛ ولِهذا يرون أن الخلق الآن محاسبون إن لم يتبعوا الإسلام مع إيْمَانِهم بأن الله لا يُحاسِب أحداً إلا ببلوغ الدعوة؛ ولكنهم كما أسلفت يحيلون دعوى عدمَ البلوغ؛ وهم مع هذا يأبون وينفون دعوى المُعتزلة: أن الإنسان محاسَب على عقله، مكلَّف باقتضائه.. وهذه الدعوى يلزم منها أن الخلائق محاسبون إن ضلوا عن الدين؛ لإهمالهم مقتضى العقل.
قال أبوعبدالرحمن: هذه مسألة شائكة، والخلاف فيها صعب دقيق؛ وسيأتي إنْ شاء الله مناسبةٌ لبحثها؛ وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.