قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال، وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (43) سورة فاطر، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً} الطارق 15-16 ، المكر هو الخديعة ومنه الحسن كما هو في حال الحرب ومنه السيء والكيد هي الحيلة السيئة وهما صفتان مثبتتان في القرآن الكريم وردتا في مواضع عدة، بينما المؤامرة هي سلسلة من التخطيط الممنهج والمنظم وعلى فترات طويلة من الزمن للنيل من فئة مستهدفة غالبا ما تكون غائبة أو غافلة ولكنها غير معدومة ولا مسلوبة الإرادة ولها حضور وتأثير فاعل في أرض الواقع مع تشويش في تنظيمها وأهدافها وهذا العنصر الأول أما الثاني ففي المؤامرة يكون الانفعال من صنع المتآمر وهو المحدث للفعل الأول وسلسلة الأحداث المتلاحقة الموجهة إلى المجموعة المستهدفة الضحية، والعنصر الثالث أن المؤامرة تقوم بدور المحفز لتحريك الأحداث مع توافر كافة الظروف الملائمة لها، فهي بمثابة عود الثقاب، وهذا العنصر يقترب كثيرا بمفهوم المكر وهو الخداع والكيد هو التحايل بإضمار السوء بالخصم، ويفارق المكر والكيد نظرية المؤامرة متباعداً عنها أن كليهما حدث منقطع أو أحداث متلاحقة ومنسجمة في إطار زمني قصير، ويعول المخادع عادة وصاحب الحيلة على مواطن الضعف لدى الخصم باستغلالها وهذا الاستغلال للضعف وأكثر منه استهداف الأخطاء والنيل منها بتضخيمها ثم الضرب فيها وهنا يكون أساس الضعف ومنشأه بسبب الضحية نفسها أو يكون هو محدث الفعل الخاطئ مما يحفز خصمه استغلال ذلك الضعف أو تلك الأخطاء والنيل منها، هذا إلى جانب أن الشخصية الماكرة وصاحبة الكيد تكون عادة متقبلة للعشوائية ولها جاهزية فطرية في التعامل مع تقلباتها ولا تعتد كثيراً بالنمطية بل تتضايق لمجرد وجودها بينما الشخص النمطي هو تقليدي وله مهارات مهنية وميول تعليمية - يمكنك فحص نفسك على هذا الأساس لتحديد أي شخص أنت - أثر عن إدوارد الأول ملك إنجلترا To be a king is to get advantages in any situation، لذلك يمكن اعتبارها وتسميتها بنظرية اقتناص الفرص كبديل لنظرية المؤامرة.
بإسقاط ما سبق على مثال حقيقي وواقعي يظهر الفرق بجلاء، قبل سنوات غزت فئة أخذت على عاتقها معانفة الغرب لتعيد إلى الأذهان حقبة الحروب الصليبية بصورة فجة، اقتحمت الحدود جوا وتمكنت من إسقاط برجين قديمين إلا أنهما يرمزان إلى قوة عظمى وكان حصيلتها آلاف القتلى، حلت المفاجئة في بادئ الأمر ثم بدأت فترة صمت أعقبها ظهور التنظيرات وانتهت بأنها مؤامرة لدلائل قوية لا يمكن دحضها بسهولة، منها تغيب فئة عن التواجد في البرجين وبشكل كلي من أتباع ايدلوجية ثالثة، تمكن هؤلاء الشبان رغم أصولهم البعيدة شرقاً وانتماءاتهم الراديكالية وإمكانياتهم المحدودة اختراق حواجز الأمن والتخطيط بدقة متناهية وتوجيه الضربة إلى نقاط هندسية في المباني بواسطة طائرات مدنية جعل أمر السقوط الشامل محتما ولو اختل قليلا لجاز أن يكون الدمار جزئيا، تصوير الحدث تم بزوايا عدة وكأن فلما سينمائيا يتم تصويره وليس عملية إرهابية غير متوقعة، من جهة آثار ذلك الحدث فما جره من غزو لدول وإسقاط حكومات وتبرير لملاحقة الإرهاب حول العالم وفي حقيقته موجهة لدول بشكل تراتبي ذي أيديولوجية أكد أن الأمر تم بناء على مؤامرة مسبقة وتوجيه وتخطيط من قبل تلك القوى العظمى والمستفيدين من نتائجها المبهرة وهنا يبدوا اكتمال عناصر المؤامرة.
إلا أن التفسير الآخر يمكن تصوره بالشكل التالي: التخطيط والتنظيم تم بمجمله من قبل هؤلاء الشبان بشجاعة فائقة وحماقة نادرة وجهد دؤوب ورأي خئوب، وريتهم امتثلوا للمتنبي: الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني، حين علمت أجهزة الاستخبارات سمحت بتمرير العملية بعد دراسة الخسائر المحتملة والتضحية الممكن تحملها في سبيل اقتناص ثمارها، وحين قربت ساعة الصفر تم تحذير أصحاب انتماء معين من التواجد في الموقع المستهدف لأنهم خارج حدود الخسائر الممكن التضحية بها، ثم جلس الجميع على أرائكهم وفريق من المصورين المحترفين في مواقعهم ليهمس بعضهم لبعض اليوم سيرتكب هؤلاء السذج أكبر حماقة في تاريخهم. إنها نظرية اقتناص الفرص، ضعف خصمك قوة لك، وأخطاء خصمك منافع لك، كل ما عليك هو التقاطها ووضعها في سلة أرباحك.
إن الأمر برمته يتعلق عن كيفية نظرك للأمور وزاوية الإسقاط لديك أهي ذاتك أم خارج عن إطار الظرف المحيط بك وإن كان كذلك فالخارج مدارات متعاقبة ومتداخلة ومتباينة قربا وبعدا، فأي مدار اعتاد عقلك العمل من خلاله؟ وبالتالي تتحدد طريقة تفسيرك للأمور، وهذا ما يجعل الأمر الواحد له تفاسير متعددة. مثال آخر زعيم شرقي أصيب بعقدة عنتريه، أستأذن سيدة البحار لغزو بلد مجاور، كان جوابها صمت كصمت العذارى وعبارات رقيقة بمهارة دبلوماسية أسالت لعاب عنترة على شاربه، فاستنتج الضوء الأخضر وأن هذا شأن إقليمي، ركن لاستنتاجه لأنه يغذي عنتريته فزحف لتزحف عليه جيوش الدنيا، كان حاله كحال سائر قومه وأبناء لغته إلا أنه فاق عليهم بما فاق عنترة أهل زمانه، ولولا أن سيدة الغناء الشرقي سبقته لكان القول قوله كما كان الفعل فعله معاتباً العجوز فاحشة الجمال: وما أنا بالمصدق فيك قولا, ولكني شقيت بحسن ظني.
ومازال أبناء اللغة نفسها ليومنا يحللون الوقائع بنفس العقلية وذلك لما حدث في بلد عريق مؤخرا، وإن قبلنا جدلاً أن ما تم كان بتدبير من الزعامة فذلك لا يصل بهم إلى مرادهم للانتقاص المبطن منه بل يعطيه هالة وأنه فاق الدهاء بمراحل، ولكني أفضل لبساطة فهمي أن ما تم كان فرصة وقد اقتنصت ثماره في الوقت المناسب خاصة أن التدبير لأمر كهذا يقابله عمل يتصور العقل أن يكون محلاً للمخاطرة لعظيم حجمه وخطورة أبعاده.