عبدالعزيز السماري
لا يمكن بأي حال أن تنسى الأجيال المعاصرة ما حدث من تسلط بشري باسم الدين، والذي وصل إلى قلب قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة إلى العكس تماماً، فالأصل تحول مع سيطرة العقل المتخلف إلى النقيض، وإلى أن الأصل في الأشياء المنع والحرمة، فتم التحريم بأثر رجعي، وإن خالف الشرع المنزل، وطال التحريم الملابس والأجهزة، ووصل التطرف إلى أقصاه عندما أعلنوا الحرب على المجتمعات باسم إشاعة المحرمات.
كان حجاب المرأة أحد أشهر شعارات الصحوة الدينية كما يطلقون عليها في المجتمعات الإسلامية، وكانت المرأة موضعاً للمزايدة في الخطاب الديني المعاصر، ولكن عندما نستعرض مسألة الحجاب في التاريخ الإسلامي، فنكتشف العجب، وربما نصل إلى أن التحول في القاعدة الشهيرة في أصل الأشياء حدث بعد نجاحهم في قضية الحجاب، وقد نجحوا بالفعل في اختطاف التشريع الإسلامي من القواعد الإسلامية السمحة.
عندما أتناول قضية الحجاب لا يعني ذلك أنني أدعو للتعري والكشف، ولكن أسوقه للاستدلال على أن التحول إلى التحريم والمحافظة جاءت متأخرة جداً، وإليكم المثال من قول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحجاب، (وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ: أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ، وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ: « أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لَكَاع؟ « فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَمَةِ: رَأْسُهَا، وَيَدَاهَا، وَوَجْهُهَا « انتهى من «مجموع الفتاوى» (15 /372).
كذلك كانت عورة الجارية عند الجمهور (الشافعية والمالكية وأكثر الحنابلة): من السرة إلى الركبتين. زاد على ذلك الحنفية: البطن والظهر، أما الصدر فليس عورة. ويجوز أن يجسه الرجل قبل أن يشتري الجارية، لأن هذا يؤثر في ثمنها، أما تغطية شعرها فلا يجوز، وكان عمر رضي الله عنه ينفذ ذلك التشريع الرباني، بضربهن إن فعلن ذلك، ولا يعترض عليه أحد من الصحابة، وهو ما يعني أن الأمر بتغطية الحرائر كان لئلا يؤذين، ولردع الرجال عن التحرش بأمهات المؤمنين وأزواج وبنات الصحابة.
لنرقب الآن كيف تغير الحكم من جواز كشف عورة الأمة والنهي عن تغطيتها كما نفذه الخليفة الثاني، إلى الأمر بحجابها بالكامل، وحدث ذلك من خلال شيخ الإسلام ابن تيمية، وبرر موقفه المخالف للأمر التشريعي أن الإماء في زمن الرسالة والوحي كن غير جميلات أي مثل القواعد من النساء، وبينما الجواري التركيات فاتنات، ويجب حجابهن!: (إنَّ الإماء في عهد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وإن كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر؛ لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، فَهُنَّ يُشبهنَ القواعدَ من النِّساء اللاتي لا يرجون نكاحاً، قال تعالى فيهن: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} النور/60، يقول: وأما الإماء التركيَّات الحِسَان الوجوه، فهذا لا يمكن أبداً أن يَكُنَّ كالإماء في عهد الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، ويجب عليها أن تستر كلَّ بدنها عن النَّظر، في باب النَّظر «انتهى من «الشرح الممتع» (2/157-158).
كان ذلك مدخلاً واسعاً لقلب بعض الأحكام، أو لتضييق كثير منها إلى المنع أو الحرمة، وإلى نقل القاعدة الشهيرة من الأصل الحلال إلى الحرام، وقد نجح الفقهاء في اتساع دائرة الحرام، إلى أن سقطت الحضارة الإسلامية، وكان ذلك بسبب جلد الحريات والإبداع من خلال منهج التحريم البشري، والذي وصل في بعض المجتمعات إلى منزلة التحريم الإلهي.
يدخل في هذا الباب الواسع، والذي ليس للدين الحنيف المنزل أي علاقة به، الموقف من العقل والعلم، والموقف من الكيمياء والموسيقى والاختلاط، والتي كانت أحكام التحريم فيها طارئة على الشرع الحنيف، وقد أدى نجاحهم في العصر الوسيط إلى الاندفاع في ذهنية التحريم إلى مناطق أدت إلى خنق الحياة في المجتمع، ومنها الأمر بإغلاق المحلات أثناء الصلوات الخمس وهو يخالف الشرع، ومطاردة الناس في ملابسهم وتجوالهم وأفكارهم، والموقف التحريمي من السفر، والأجهزة بدءا من الميكروفون إلى الجوال المصاحب للكاميرا والإنترنت وغيرها.
ما أود الوصول إليه في هذه المقالة ليس الدعوة إلى الانحلال والإباحية، ولكن دعوة للتوقف عن تضييق الخناق على الناس في حياتهم العامة، وإعطاء مساحة للحرية النسبية التي لا تتعارض مع الأنظمة العامة وعلى قاعدة التعدي على حقوق الآخرين، وقبل ذلك العودة إلى أن القاعدة في الأشياء الإباحة، والتراجع عن كثير من الأحكام التي تم إلصاقها بالشرع جزافاً، والدين الحنيف براء منها، الله ولي التوفيق.