علي الصراف
أغدق أنصار النظام في دمشق في إطلاق الوعود عن نتائج المعركة المنتظرة لـ»تحرير» المنطقة الشرقية من حلب، وزادوا في الاطناب حتى أطلقوا عليها وصف «أم المعارك»، وقالوا إنها ستقلب كل موازين القوى ليس في سوريا فحسب، وانما في المنطقة والعالم والمجموعة الشمسية، وأوشكوا على القول، بل وفي درب التبانة كله. وزادوا على هذا بالكثير من التهديدات، ولكن، ليس تعبيرا عن إمكانيات، بل تعبيرا عن غطرسة.
المشكلة ليست هنا. إنها في تكرار وصف ثبت أنه نموذج فاشل. فأم المعارك الأصلية، انتهت بهزيمة كبرى. ولا أعرف كيف تتفتق العقول عن استدعاء مثال لا يستحق أن يكون مثالا.
حصار المنطقة الشرقية في حلب لم يدم طويلا على أي حال. وزادت الخسارة بأن أصبحت المنطقة الغربية الخاضعة لسيطرة النظام محاصرة من عدة جهات، ولا أعلم كيف سيكون مصير المجموعة الشمسية بعد هذا.
المبالغات قد تفيد أحيانا، إلا أنها تضر دائما. سوى أنها تكشف عن مفارقة أهم هي أنها كلما زادت بعدا عن الواقع، قدمت دليلا أقوى على أنها أصبحت عائقا ذهنيا يحول دون التماس القدرة على العودة إلى الصواب.
والحال، فإنك إذا أطلقت النار على الواقع، فإنه سيرد عليك بكل المدافع.
وبعض المدافع يقول ما يلي:
1ـ النظام السوري يستعين بقوى خارجية من أجل أن يتصدى للضغوط العسكرية التي يرزح تحتها. أي أنه لا يملك، في ذاته، القوة الكافية لخوض «أم معاركه».
2ـ تلك القوى، برغم كل الجهد الذي تبذله، لم تتمكن من تغيير الكثير من موازين القوى على الأرض.
3ـ البلاد تعيش، كليا، على مساعدات إيران وروسيا. وهو ما يعني أن الاقتصاد ضاع.
4ـ القرار الاستراتيجي هو قرار إيران بالدرجة الأولى، لا قرار دمشق. وهو ما يعني أن السيادة ضاعت.
5ـ الاستنزاف الذي استهلك الكثير من طاقة النظام، زاد ليستهلك الكثير من طاقة داعميه.
6ـ الحرب ضد الإرهاب تجري في مكان آخر بعيد عن «أم المعارك» وعن مشاغل أصحابها.
7ـ الصدام في حلب يعني، في أقل الاعتبارات، أن هناك توازنا عسكريا قائما بالفعل بين القوتين المتصارعتين، وان النظام لم يفلح في تحقيق تطلعاته.
ولكن ماذا لو انقلبت المبالغات الى واقع مرير؟ هل سيعني ذلك أن صدمة صحو ستنشأ تسمح بإعادة النظر في الحسابات؟
الأرجح، لا. لأن الذين قرروا المضي قدما في هذه الحرب اختاروا، منذ البداية، أن يقطعوا تذكرة «ذهاب بلا عودة» في هذا السبيل. وهم لا يملكون إلا الاستمرار به حتى ولو لم يبق فيها حجر على حجر.
يذهب الاعتقاد بمن اختاروا هذا السبيل أنهم يستطيعون، في نهاية المطاف، أن يكسبوا ورقة أخيرة: التقسيم، لكي يهنئوا بقسط من الأرض خاص بهم (شيء يشبه سلطة جماعة «حزب الله» في جنوب لبنان)، ولكن ما ينسونه هو أن ذلك أمر لا يمكن إملاؤه بالقوة. فالذين افتقروا إلى القوة للمحافظة على معظم البلاد، لن يعثروا على القوة للمحافظة على جزء منها. سيقال لهم في النهاية: «مش على كيفكم»، «دخول الحمام، ليس كالخروج منه».
المبالغات قد تعني أنها محاولات أخيرة لشد العزائم. ولكن الإمكانيات المتهالكة، والقدرات المستنزفة يمكن أن تقلب شد العزائم إلى مشاعر مرارة أعنف مما هو ضروري.
ألا يبدو قبول الواقع أقل إيلاما من مجافاته؟
نعم، إنما للعاقل.
لذلك، فإن خير ما يمكن قوله للمبالغين في إمكانيات ومعجزات «أم المعارك» هو: اتركوا المجموعة الشمسية وحالها. عندما تغطسون في حلب، لا تجعلوا الضياع الذهني طريقا للسفر في درب التبانة.