د. حسن بن فهد الهويمل
المملكة تعيش حالة حرب مفروضة عليها. وأعداؤها ملاكمون مهرة، يتبادلون الأدوار على الحلبة .
إذ كلما أنهكت المملكة ملاكماً بقوّتها: الناعمة، أو الخشنة، استبدله اللاعبون بملاكم أشد جلداً، وأقوى إصراراً، وأمكر تحرفاً، وأسرع تحيزاً.
وكأنهم بهذه المراوغات جلود أهل النار:- {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}.
المتربصون الماكرون يمارسون الحربين : العسكرية، والإعلامية بكل جلدٍ, واحترافية . ويستدرجون المتسطحين المتصدرين بحرب الشائعات من حيث لا يعلمون .
هذه الحال التي لا أبالغ إذا قلت : إنها تشبه حال القيامة، التي وصفها الباري سبحانه أدق وصف : (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا), تتطلب من الأمة تصرفاً حكيماً، يوقف التدهور, ويحمل على تجاوز المنعطفات العصيبة .
المؤسف أنّ الحال بهذه الصفة، لم تُغَيِّر التفكيرَ، ولا التدبير, ولا التعبير عند الكثير من المتصدرين لتشكيل وعي الدهماء .
فالبعض من أولئك في سائر شؤونهم، لم يتحرفوا لما ينفع، ولم يتحيزوا لمن يدفع . وكأن ما يجري على الحدود، وفوق الأرض تمثيل مسرحي، لملء الفراغ، والإمتاع .
بعض من لاقيت من هؤلاء، لا يتحدث بوعي عما يحيط بوطنه من مكائد مفزعة, ولعب مخيفة. وحتى الذين يشاهدون القتل الهمجي، والتدمير العشوائي، والحصار القاتل للمستضعفين في الأرض، تمر بهم تلك المناظر المفزعة، ووجوههم وضَّاحةُ، وثغورهم باسمة. وكأن ما يجري وثائق تاريخية عن الحربين العالميتين : الأولى، والثانية .
لقد تحولت خمس دول عربية إلى أشباح، و(الحبل على الجرار) - كما يقال - .
هذه الجرائر أصمت, وأفنت. وفعلت ما فعله أصحاب الأخدود من قتل للأحياء، وإحراق للممتلكات .
ومن قتلوا، أو ذاقوا مرارة التشرد، أو صمدوا بانتظار الموت بشر أمثالنا، ليس لهم ذنب إلَّا أنهم مكنوا اللعب السياسية من النفاذ إلى المكونات السكانية وإفساد ما بينها .
وحالة الحرب التي تعيشها منطقتنا، والتي يمتد لهيبها إلى أعماقنا, حتى لكأننا في اللهب، ولا نحترق, تتطلب صياغة محكمة لأسلوب المواجهة. فما عاد هناك مجال للتلاوم، والتناجي الآثم حول الأمور التي اختلف فيها سلفنا زمن التمكين, ولا حول النوازل, ومحدثات الأمور. وانشغالنا عما يجري بما دونه إهمال للثغور, وتحفيز للأعداء.
أمتنا في حالة حرب شرسة، لا تستدعي اللجاجة، والخصام، وتشتيت الجهود في أمور لا طائل تحتها .
وبلادنا التي أطعم الله أهلها من جوع، وآمنهم من خوف، ومكن قادتها من إنجاز مثمنات، لا يملك مثلها أحد في مشرقنا بحاجة إلى علماء, ومفكرين, وإعلاميين يعون متطلباتها، ويبادرون لحمايتها . فدور قادة الفكر، والعلماء, والمعلمين، وحملة الأقلام هو الدور الأهم .
كل مواطن على ثغر من ثغور الوطن, وواجبه ألا يؤتى وطنه من قبل ثغره . وفي الحديث :- [كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته] .
وأي مواطن يستخف بدوره، ويَنْسَى أنه ( رجلُ أمن) يتيح المجال للمفسدين في الأرض الذين غُرِّرَ بهم، وغُسِلَت أدمغتهم، وفُخِّخَت أجْسادُهم .
هذه الاختراقات التضليلية مسؤولية الجميع، فما من أحد في معزل عنها، ولا في سلامة من نتائجها الوخيمة .
وأي مواطن يوظف لسانه، أو قلمه للتنازع مع شريكه في سفينة الوطن حول ملفات جاثية في غياهب التاريخ، يسهم في تشتيت الجهود, وتحشيد المشاعر، وتفريق الكلمة .
نحن نختلف، ومن حقنا أن نختلف, لأننا خُلِقنا لنختلف ولكن الزمن مثقل بالمشاكل، وضرورة الإرجاء قائمة.
أعداؤنا يُوحِّدون كلماتهم, وأهدافهم، ويرصون صفوفهم، ويتنازلون عن بعض ما يرون، ويُوجِّهون كل قدراتهم إلى جبهات القتال، دعماً للمجهود الحربي .
فيما البعض منا يجتر ببلاهة معتقة قضايا هامشية، لا نجني من ورائها في ظل هذه الظروف إلا الفشل، وذهاب الريح، والتكتلات الفئوية . ومن رابه الأمر, فلينظر في المواقع, وفي أنهر الصحف .
دعونا نفكر في واقعنا، ونلتف حول بعضنا، ونُنْسِىءُ خِلافاتنا، حتى تضع الحرب أوزارها . ثم ليكن بعد ذلك اتفاق، أو اختلاف . فالزمن المثقل بكل مخيف, لا يحتمل تعدد الخطابات، ولا تنوع الاهتمامات .
جبهتنا الداخلية هي رهاننا، وتماسُكُها (صَخرةُ الوادِي إِذَا مَا زُوْحِمَتْ) . والمغثون بلجاجاتهم، وتغريداتهم، المفرطون بجهودهم، المشتتون لشملهم, يظنون أنّ مهمة المواجهة مسؤولية (رجال الأمن) و(أفراد الجيش)، وذلك ظنهم الذي أرداهم .
المواطن في أي موقع بوعيه، ومساندته، وتوجيه اهتمامه إلى المجهودين : (الأمني), و(الحربي) يشكل أرضاً صلبة، تثبت الأقدام، وتربط على الأفئدة, وتقوي العزائم، وتحمي الساقة، وترودُ للمقَدِّمة. ومن استخف بدور المواطن, وأضلّته الاتكالية, أصبح بكل مثمناته في مرمى العدو .
إننا أمام (حرب طائفية)، و(حقد مجوسي), و(أطماع صهيونية)، دبرتها، وباركتها الدول الكبرى . حينما علمت أنّ مباشرة الحروب ليست في مصلحتها، ولاسيما أنّ تجاربها السابقة منذ ( الحروب الصليبية ) باءت بالفشل.
وخيارها البديل تصديع الجبهات الداخلية, والنفاذ إلى الأعماق من خلال [ الطابور الخامس ] وزوار السفارات، والإغراء بتنويع الانتماءات: الدينية، والعلمانية, و[الليبرالية ]، و( الحداثية ), و(العصرنة) والتلويح بشعارات كاذبة مخادعة, كـ[الحرية], و[ الديمقراطية] و[الدستورية ]، وتجنيد المنظمات الكاذبة, كـ[منظمات حقوق الإنسان] لتشويه السمعة، وتوهين العزمات .
ومع أنّ (الفكر السياسي الإسلامي ) ينطوي على المفيد للإنسانية، مما تلوح به تلك الشعارات, والمنظمات، فإنّ الأخذ بأحسنها دون الذوبان فيها طريق قاصد .
ومن خلال التجارب فإنّ الرهان على الجيوش لم يعد الرهان الأفضل. لقد فشل (الانقلاب العسكري التركي) بإرادة الشعب . وذلك حين تدفقت أطيافه المختلفة منذ اللحظات الأولى إلى الشوارع، والميادين لإرغام الانقلابيين على الهروب، أو الاستسلام، والدفع بالجيش إلى ثكناته .
لقد كشفت إرادة الشعب ضعف كل الإرادات, وأثبت الواقع أن تماسك الجبهات الداخلية هو الرهان الأقوى، والأجدى .
وعلى الرغم من أنّ (الشعب التركي) متعدد الأحزاب, والانتماءات, فقد جمعته المصلحة العليا، المتمثلة بـ[ العدالة ] و[القوة ] و[ الحرية ] و[الديموقراطية ]. وجعلته يعترض سبيل الدبابة، ويحمي صناديق الاقتراع .
إنّ علينا أن نعي متطلبات المرحلة بكل ما تعج به من فتن عمياء، دمرت الممتلكات, وأهلكت الحرث، والنسل، وبلغت بالشعوب المتقاتلة لصالح الأعداء درك الشقاء .
دعونا نعيش حالة الحرب المفروضة علينا، بكل ما تتطلبه من تصالح بين الأطياف، وتسامٍ فوق الاختلاف .
ولن يتحقق شيء من ذلك, حتى نكون معاً ضد (الإرهاب), وضد (الشائعات)، وضد (اللعب) و(التناجي الآثم)، ومع (العقيدة) و(القيادة), و( المرجعية ):- النصية والشخصية، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط !.