د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أبهر من حضروا حفل افتتاح الدورة الأولمبية في ريو دي جانيرو منظر ست زهرات خضر جميلات يرفلن في أزياء بديعة متنوعة تعكس تنوع ثقافات مناطق مملكتنا. وكان منظرهن الحضاري، ومنظر الوفد السعودي مصدر فخر واعتزاز لمعظم السعوديين. أزياء المتسابقات السعوديات في وفد المملكة لم تكن سوداء كما توقعها البعض، بل كانت خضراء كلون الربيع والرخاء والسلام، وكما هي راية «لا إله إلا الله» شعار المملكة وربيعها الدائم. الزي جمع بين الأصالة والتواضع والجمال، وتجلت فيه الفتاة السعودية المحجبة في أبهى صورها.
ولا يجادل عاقل في أن الإسلام نقل المرأة المسلمة نقلة حضارة نوعية جعلها تتفوق في حقوقها واحترامها على كافة الثقافات والحضارات من حولها. لكن المسار التاريخي والحضاري للأمة عرج بها إلى محطات تاريخية مختلفة كانت بعضها - وللأسف - أقرب للجاهلية منه للإسلام. ووصف «الجاهلية» الذي يطلق على مرحلة ما قبل الإسلام لم يكن بلا معنى، بل هو مشتق من «الجهل»، الجهل بشكله العام وليس الجهل بالدين فقط. فأول آية نزلت في القرآن هي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. والرسول الكريم، عليه أفضل الصلوات والتسليم أعتق بعد أول غزوة له أي أسير يستطيع تعليم القراءة لثلاثة من المجاهدين معه، أمر بتعليمهم ليفلحوا في دنياهم مع آخرتهم. ولا توجد ديانة حضت على العلم والتعلم مثل الدين الإسلامي. فالإسلام دين العلم والحضارة لا الجهل والانغلاق. وساد المسلمون عندما ركزوا على جوانب العلم والانفتاح في الدين، وتراجعوا، كما هم اليوم - وللأسف - عندما تعسفوا في تفسير الآيات، وانتقوا من كتب الحديث ما يحض على الانغلاق ويقمع التطور والتقدم.
يقول الله في كتابه المحكم بشكل لا يحتمل أي تأويل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}، وقال أيضاً: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، فالله أوجب علينا التعامل مع المرأة بالمودة، والرحمة والمعروف، وليس بالشك الدائم والتوجس. وقد وصف الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام النساء بشقائق الرجال، وقال أيضاً: (خيركم خيركم لأهله). وكان هو، رسول الله يسابق زوجته، ويؤاكلها، ويساعدها. ولم يذكر في الأثر وجود خطّابات، أو وسيطات في عهد الصحابة إنما تزوج بعض الصحابة بعد رؤيته لزوجته مباشرة. وقد خرجت عائشة رضي الله عنها في موقعة الجمل على رأس جيش كان من بين أفراده الذين تقودهم اثنان من المبشرين بالجنة: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام. وهناك قصص ومآثر لصحابيات لا يوجد ما يقاربها في أي ثقافة أخرى. فنصوص الدين واحدة تقريباً طيلة التاريخ الإسلامي، والاختلاف دائماً كان في أسلوب انتقاء النصوص وأساليب تفسيرها. وتتباين المجتمعات الإسلامية اليوم بشكل واضح في نظرتها الحقوقية والاجتماعية للمرأة.
وقد حرصت حكومات المملكة العربية السعودي المتعاقبة على تعليم المرأة، ونقلتها نقلة نوعية، وساوتها في التعليم والوظيفة بالرجل. فالمرأة والرجل يتعلمان المناهج ذاتها في التعليم العام والجامعي، والسلم الوظيفي موحد للجنسين. ولم تدخر المرأة السعودية جهداً في سبيل الارتقاء بنفسها، وأخذت بناصية العلم وتساوت مع الرجل بل وتفوقت عليه أحياناً، لكن هناك من يضع لها إطاراً خاصاً في ذهنه يحاول حبسها داخله للأبد. فالعلم هو أفضل وأجدى تحصين للمرأة لأنه يحصن المرأة في عقلها وذاتها وأخلاقها، ونساؤنا المتعلمات في الخارج حصن أنفسهن بأنفسهن، ويرفضن من ذاتهن ما يرفضه دينهن عن قناعة لا فرضاً وخوفاً. ولو أمعنا النظر في موضوع تحصين المرأة، وفكرنا به بعمق لعرفنا أن الأخلاق الحميدة هي ما يحصن المرأة وليست أخلاق الثياب. وإصرار البعض على أن المرأة في كل الأحوال فتنة يستثني الجانب الآخر الذي يحتاج لتحصين عقلي وأخلاقي حتى لا يُفتن بأبسط الأشياء من حوله. فالخوف على المرأة أحياناً ما هو إلا تعبير عن خوف داخلي من المرأة.
وعوداً على ذي بدء، علينا التساؤل لماذا يسمح للمرأة في الخارج بالظهور بشكل متسامح ولائق ضمن وفد رجالي وفي محفل كله رجال، ولا يُسمح لها بأمر مشابه في الداخل؟ لِمَ نسمح لكل من هبَّ ودبَّ بالتدخل في شئون المرأة في الداخل بحجة الاحتساب وهي متسترة ولا تخالف نظاماً أو تعاليم ربانية؟ المرأة في مجتمعنا تعلمت وتغيرت، ولا بد لشقائقها من الرجال إظهار المروءة والتسامح حيال توسع مشاركتها الاجتماعية. أليس من العيب أن يكتب كثير من أطبائنا النفسيين أنهم ذهلوا مما تعلموه في عياداتهم عن الظلم والكبت التي تتعرض له المرأة في مجتمعنا؟ هل هذا ما يأمرنا به ديننا، وتتقبله مرؤتنا؟ الجواب بالطبع لا. وقد وعدتنا رؤية المملكة لعام 2030 بمشاركة أكبر للمرأة في المجتمع، وهذا لا يمكن إلا بإزالة الجهل والغشاوة عن نظرة بعضنا لها.