د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
قبل أن يبعدنا سوء الفهم عن القصد من العنوان، أود أن أبيّن أن عرض الموضوع لا يُقصد به اقتحام مجال خارج عن اختصاصي، بل طرح تساؤلات تظهر لشخص غير مختص عندما يواجه إشكالات في مسائل دينية تمسّ أمور الحياة العامة، كما أن المقصود بالتيسير هنا ليس ما يلحّ عليه كتّاب الغرب ومعهم مسلمون مقيمون في الغرب وهو (إعادة النظر في تعاليم دين الإسلام) - أي تهذيبها بعيداً عن التعاليم والنصوص التي يؤوِّلها ويكيّفها المتطرفون الإرهابيون لتبرير همجيّتهم ومفترياتهم. المقصود هو النظر -وليس إعادة النظر- في تعاليم الإسلام من واقع النصوص الشرعية في أصلها من جانب، ومن جانب آخر شروح الفقهاء والمفسّرين وما صنفوه من كتب واستنبطوه من أحكام في أزمنة مختلفة عن زماننا وفي ظلّ ثقافة وبيئة مختلفة عمّا هي عليه في واقعنا الراهن، ومدى ما يتركه هذا الاختلاف من أثر على تطبيقنا لشروحاتهم واستنباطاتهم. فالذين ألّفوا واستنبطوا من علماء عصرنا نقلوا ما كتبه الأولون بنصّه ومعانيه مع شرح أو تبسيط لألفاظه، وكانوا أمناء في ذكر الاختلاف بين الروايات والأقوال وقد يرجٌحون قولاً على قول وفق الضوابط المصطلح عليها. لا شك أن العلماء الأوّلون كان لهم فضل مكابدة البحث والاجتهاد في ظلّ تأثير العوامل التالية:
-- أنهم عاشوا في العصر العباسي وما تلاه الذي اختلطت فيه الأجناس من عرب وموالي وعجم باختلاف في اللغات والثقافات، وكثرت فيه الفرق والمذاهب العقدية والنزعات الشعوبية.
-- أن أغلبهم كانوا قريبي عهد بجيل التابعين الذين نقلوا عن الصحابة ما رووه عن رسول الله - صلى الله عليه سلم - من أقواله ومن أفعاله وسيرته، وربما اختلفت بعض الروايات في لفظ النصّ أو تفسيره، ولكنهم ينقلون بأمانة ما دام الإسناد صحيحاً، فقد كان التابعون موضع ثقة وتبجيل لعلمهم، ولأن عصرهم كان خالياً من الانحرافات والأهواء التي شابت العصر العباسي.
من أجل ذلك حرص العلماء الأولون على توثيق وتدوين ما وصل لعلمهم عن طريق أولئك التابعين والتفصيل فيه وحفظه خشية ضياعه أو تحريفه، والتصدّي لما يثيره من الشبهات أصحاب الفرق التي حادت عن منهج السلف. أمّا ما يشْكِل من المسائل أو يستجد فإنه يستعان بالقياس، وكان البعض يأخذ بالرأي الذي يقبله العقل. وقد يعدّل العالم رأيه أو فتواه إذا انتقل إلى بيئة أخرى. وفي كل حال فالشرح والاستنباط واستقصاء معنى النص واستخراج الأدلّة إنما هو ثمرة جهد شخصي قابل للأخذ والردّ، ولهذا وجدت الاختلافات بين العلماء حسب المذهب، وأحياناً داخل المذهب ذاته. وكذلك علماء عصرنا يبذلون الجهد حين يؤلفون كتباً أو يصدرون فتاوى أو يعلّمون الناس. ولكنهم أيضاً بشرٌ يختلفون؛ ومن هنا تنشأ الإشكالات والملاحظات التي تقلق بالنا كمتلقّين ومتّبعين. فمن علمائنا الأفاضل من يتشدّد ويتوسع في القطع بالتحريم وعدم الجواز، وقد يتمسّك برواية معيّنه لصحة إسنادها حتى لو خالف متن النص المرويّ طبيعة الأشياء. ومنهم من يقوّي الإسناد الضعيف لرواية توافق رأيه بالإشارة لرواية أخرى ضعيفة تسندها؛ ومنهم من يتبنّى رأياً ويترك الباب موارباً بعبارات مثل: (في أصحّ قولي العلماء - في هذا الرأي خلاف والأحوط كذا...- وللخروج من الخلاف نرى كذا...- وهناك من يقول بكذا... ولكن دليل القول الأول هو الأقوى- وفي رواية أخرى لبعض أصحاب المذهب أن..). ويرى العلماء أن الاختلافات بينهم ينطبق عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام أن: (اختلاف أمتي رحمة). هذا صحيح بالتأكيد، والرحمة تتحقق بالتيسير. على أن أغلب ما يثير الإشكالات هو التوسّع المبالغ فيه في سدّ الذريعة استناداً إلى سوء ظن أو احتمال ضعيف أو توهّم بأن يؤدّي فعل أمرٍ ما إلى ارتكاب محرّم، لما يسبّبه ذلك من تضييق على الناس في حياتهم، من حيث أنه قد تنشأ نتائج سلبية اجتماعية تفوق ما كان موضع الظن أو الوهم - مثل تقييد دخول الشباب إلى المجمعات التجارية أو دخولهم (بالبرمودا) ونحو ذلك ممّا يعزلهم عن المجتمع ويلجئهم إلى البحث عن أماكن أخرى، أو مثل تقييد عمل المرأة، ممّا يزيد البطالة ولا يحفظ كرامة المرأة. وقد يلحق بذلك السينما والموسيقى والأغاني التي تخلو من الفحش والخلاعة. وممّا يثير الإشكال أن يكون هناك اتفاق بين العلماء الأولين على مسألة معينة تمسّ حياة الناس التي هي عرضة للتغيّر حسب الزمان والمكان بين جيل وجيل- ومباب أولى بين عصرين يفصل بينهما أكثر من ألف سنة، فيؤخذ في عصرنا هذا بما قرّره علماء السلف، حتى مع عدم وجود نص صريح بالأمر به أو النهي عنه أو مع انتفاء علة الحكم واختلاف السياق الزماني والمكاني وظروف العصر الراهن عن ظروف عصر السلف - مثل تزويج الصغيرات، السبْي، قيادة المرأة للسيارة..الخ - ودون النظر في إمكانية تقييد المباح أو الموازنة بين المصلحة والمفسدة من حيث حجمها وآثارها. وأكثر ما ينطبق ذلك على مستجدّات العصر. وقد مرّت بنا (نوازل) استنكرناها في البداية، ثم قبلها الجميع بعد أن تبيّنوا أن المصلحة فيها تفوق ما كانوا يخشونه من آثارها. إن جميع ما سبق ذكره لا يخرج عن مجال فقه الواقع الذي قويَ النزوع إليه في الوقت الحاضر من كثير من العلماء. ولعل هذا الاتجاه الواقعي يثمر عن تأسيس (مرجع فقهيّ ميسّر) تصنفه هيئة من علماء أفذاذ من جميع المذاهب السنية المعتدلة ذوي تفكير علمي منهجي وسعة اطلاع ومتابعة لأحوال الناس - مع الاستعانة بخبراء في الاجتماع والاقتصاد والقانون والطب والعلوم الطبيعية، فيكون مرجعاً فقهياً معتبراً، وليس مسيّسا ولا متّبعاً لهوًى شخصي أو مذهبي ولا متعرضاً للثوابت العقدية والعبادات ولا محلّلاً لحرام أو محرّماً لحلال منصوص عليهما في الشرع، ولكن يريح الناس من الحيرة والحرج والشكوك واللجوء إلى التحايل أو تتبّع الرخص عمداً، ويزيل الخوف من التشدّد الذي لا يخدم مصالح الناس بقدر ما يضع القيود على تطور المجتمع وتنظيم أمور دنياه. والأمر فيه سعة والحمد لله من خلال النصوص الشرعية التي تحث على التيسير - مثل (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) «سورة الانشراح» أو (ما خُيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون إثماً..- من حديث عائشة رضي الله عنها) إلى جانب الأخذ بالمقاصد الشرعية والمصالح المرسلة وفقه الموازنات ممّا يعين أولي الأمر على اتخاذ القرار الصحيح: ( فحيثما تكون المصلحة فثَمّ شرع الله - ابن القيّم).