د. عبد الله المعيلي
يروى عن (أحمد بن مسكين) - وهو أحد علماء القرن الثالث الهجري - أنه قال: امتحنت بالفقر عام 219هـ، فلم يكن عندي شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف، فجمعت نيتي على بيع الدار، والتحول عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني (أبو النصر)، فأخبرته بنيتي ببيع الدار، فدفع إليَّ رقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال: أطعمها أهلك، ومضيت إلى داري، فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظرت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئاً يرحمك الله، ونظر إليَّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيل إليَّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك، والله لا أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت مهموماً، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار، وإذ أنا كذلك مرَّ أبو النصر، وكأنه يطير فرحاً، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا، وفي دارك الخير والغنى! قلت: سبحان الله ومن أين يا أبا نصر؟،
قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحد من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال!،
فقلت: ما خبره؟
قال: إنه رجل من البصرة، وكان أبوك قد أودعه مالاً من ثلاثين سنة! فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في الثلاثين سنة.
يقول أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجريت عليهما رزقاً، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبتني نفسي، وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين.
فنمت ليلة، فرأيتني في يوم القيامة، وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة، وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، ورجحت السيئات، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنة شهوة خفية من شهوات النفس، كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس، فلم يسلم لي شيء، وهلكت عن حجتي، وسمعت صوتاً: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فقد كنت أحسن بمئة دينار ضربة واحدة، فما أغنت عني، فانخذلت انخذالاً شديداً، فوضعت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً، ثم وضعت دموع المرأة، وإذا بالكفة ترجح حتى سمعت صوتاً يقول: قد نجا.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض».
فهل بعد هذا الفضل فضل؟ على العاقل أن يبادر أن يلتفت إلى آخرته ولو باليسير، فقد يكون هذا اليسير عظيماً عند الله.