حينما يصل المبتعث إلى بلد الدراسة خارج المملكة لا سيما في الدول الغربية ودول شرق آسيا البعيدة فإنه سرعان ما ينتابه شعور بالغربة والحنين إلى وطنه وعدم القدرة على التأقلم مع الأجواء المناخية الباردة والتواصل مع أفراد ومؤسسات المجتمع الجديد. فما إن تهبط الطائرة في أرض المطار ويتجه نحو مكاتب الطيران والجوازات والجمارك حتى ينطلق من داخله شعور بالغربة والتغريب والاستغراب والانبهار. هذه الحالة النفسية الطبيعية تكون ناتجة عن التغيرات السريعة والمفاجئة بين ما اعتاد عليه في وطنه وما يلاحظه الطالب منذ نزوله من الطائرة ودخوله المطار فخروجه منه وذهابه إلى الفندق ثم إلى مقر الدراسة في الجامعة.
تتمثل هذه المتغيرات التي يشعر بها المبتعث في نواحي كثيرة ومنها اختلاف الجو، حيث يلاحظ التباين الشديد بين درجات الحرارة في موطنه الأصلي ومقر دراسته، إذ تتميز الدول الغربية بالبرودة الشديدة وتساقط الثلوج من بداية نوفمبر وديسمبر، ثم انخفاض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر وازدياد كثافة الثلوج في يناير وفبراير من كل عام. وفي هذه الحالة غير الاعتيادية سيلاحظ المبتعث الجديد أن الأمر يتطلب شراء ملابس معينة وارتدائها في أجواء معينة. وعندما يذهب إلى المحلات التجارية الخاصة ببيع الملابس فإنه قد يتفاجأ باختلاف نظام المقاسات المترية عما هو موجود في بلده حيث تعتمد مقاسات الملابس والأحذية في أوروبا على وحدة قياس «الأنش» وليس «السنتيمتر». كما أن نظام قياس الأوزان والمسافات يكون مختلفا في الدول الأوروبية، حيث يستخدم الباوند للأوزان الصلبة والجالون للأوزان السائلة والقدم واليارد لقياس الطول أو الارتفاع والميل لقياس المسافات.
ومن المتغيرات الأخرى التي تبرز بقوة امام المبتعث هو اختلاف نوع الغذاء كليا عما اعتاد عليه في بلده, وبالتالي فإنه سيجد نفسه مضطرا لمقاومة رغبته في الحصول على الأغذية العربية التي تتميز بنكهات خاصة ولا تتوفر في بلد الدراسة حيث يقل استهلاك اللحوم الحمراء ويكثر الاعتماد على الأطعمة الجاهزة والأسماك والبطاطس, والمقبلات والنشويات والكربوهيدرات منخفضة الدهون.
وأيضا ينتاب المبتعث خلال الأيام والشهور الأولى شعورا بالوحدة اثناء فترة الدراسة في مرحلة تعلم اللغة الإنجليزية التي تعتبر من أهم متغيرات الحياة في بلد الدراسة. وقد يلازمه هذا الإحساس لفترة زمنية أطول لا سيما إذا كان متواجدا في مدينة لا يعيش فيها وسط اجتماعي من الجاليات العربية والإسلامية وبالتالي فإنه قد يتعثر دراسيا ويبقى معظم وقته منعزلا عن الناس بسبب عدم قدرته على التخاطب باللغة الإنجليزية كوسيلة للتواصل الاجتماعي.
إن الانتقال إلى بيئة مختلفة وعلى نحو مفاجئ لا يعد أمرا سهلا في كثير من الأحيان وبالتالي فإن مجالات الحياة اليومية غير الاعتيادية، مثل البحث عن السكن الملائم وتسجيل الأبناء في المدارس وشراء السيارة وطلب التسجيل للاشتراك في الخدمات الأساسية.. وتسديد الرسوم.. الخ. كل ذلك سيجعل الأمر أمام المبتعث يبدو صعبا للغاية في بداية حياته هناك، إذ إن تلك التغيرات ستبدو بالنسبة له ولها غريبة ومقلقة. فاختلاف الغذاء واللغة والأجواء الممطرة والسكن وصور السلوك عند المجتمع الغربي في النشاطات اليومية كالاصطفاف في طابور عند محطات القطار والمطاعم والبنوك, وثقافة التعامل السائدة في المجتمع الغربي, وكيفية احترام الآخرين بطريقتهم التقليدية الخاصة بهم, وفهم القانون الاجتماعي وثقافة النظام العام في تلك المجتمعات.. مثل نظام قيادة السيارة وأنظمة السلامة المرورية والتعامل مع شركات التأمين وآلية التصرف المتبعة في حالة وقوع حوادث مرورية.. وفهم ما يقال وما لا يقال في المناسبات الاجتماعية العامة كأسلوب المحادثة بين الرجل والمرأة.. ومقابلة الموظفين, وتكوين الصداقات ...الخ.
فكل ذلك من هذه التغيرات الاجتماعية والانماط الثقافية ستشكل للمبتعث ما يعرف بالصدمة الثقافية نتيجة لحدوث تقلبات عاطفية وهزات فكرية ارتدادية تؤدي إلى حدوث مطبات سيكولوجية متلاحقة في المسار أو النمط المتبع لحياته اليومية في وطنه، وهو المسار الذي يجب أن يتخلص منه المبتعث ويستبدله بمسار آخر ينسجم مع الثقافة والقوانين العامة لذلك البلد ولا يتعارض كليا مع ثقافته الخاصة.
إلا أن كثيراً من المبتعثين يتمسكون - كملاذ أخير - بتطبيق وممارسة كل أشكال الثقافة في بلدانهم كاللجوء مثلا إلى قيادة السيارة بسرعة تتجاوز معدل السرعة المحددة وإيقافها بطريقة خاطئة وإلقاء النفايات بطريقة عشوائية وفي غير الأماكن المخصصة لها. وعدم الالتزام بالمواعيد، إضافة إلى لجوء البعض إلى التعبير عن الأفكار والرؤى بلغة إنجليزية ضعيفة وعلى نحو يتعلق بقواعد النطق والكتابة والتخاطب في ثقافة اللغة الأم. ومن هنا تنشأ الصدمة الثقافية وتكثر المواقف المحرجة نتيجة لحدوث زلات اللسان slips of tongue لدى الإنسان الذي لا يجيد الإنجليزية وينتقل مباشرة من بيئته الأصلية إلى بيئة تختلف فيها العادات والسلوكيات والأنظمة والقوانين والأعراف اختلافا كليا إلى درجة اعتقاده بأن الناس هناك يعيشون على كوكب مختلف..
وبذلك يكون الطالب المبتعث المصدوم ثقافيا على مفترق طرق سريعة. فهو إما أن يتقبل عملية الاندماج الكلي في المجتمع الغربي ويتنازل عن بعض مبادئه وتقاليده وأسلوب حياته، أو أن يرفض الاندماج كليا في المجتمع الغربي، فيعيش منبوذا ومهموما ومنعزلا، وإما أن يندمج اندماجا جزئيا في المجتمع الجديد بمعنى أن يتكيف ويتأقلم ويتعايش بطريقة تحافظ على ثقافته العربية وهويته الإسلامية من ناحية وتجعله يصل إلى الحد الذي يكون عنده مقبولا في المجتمع والبيئة الجديدين. من ناحية أخرى. وعلى أية حال، فلن يستطيع المبتعث عبور أي من هذه الطرق الثلاثة دون أن يدفع ضريبة المرور من سعادته وثقافته وهويته.
ولأجل أن نسعى إلى إيجاد ما يمكن أن يساهم في الحد من معاناة شريحة كبيرة من المبتعثين غير القادرين على التكيف والاندماج في المجتمع الغربي البعيد، فلربما كان من البديهي أن نفكر في إيجاد البديل الذي يمهد الطريق أمامهم ويخفف عنهم من حدة آثار الصدمة الثقافية إلى المستوى الذي يجعلهم قادرين على الصمود في وجه العاصفة الثقافية وبالتالي مساعدتهم في شق طريقهم نحو الهدف الذي ابتعثوا أو ابتعثن من أجله.
إن إنشاء جامعة بريطانية أو أمريكية وأخرى يابانية أو أسترالية في بلادنا, لتكون نموذجا مصغرا لبيئة غربية مماثلة في شكل أنظمتها وإدارتها وأعضائها الإداريين والأكاديميين لتلك التي يذهب إليها المبتعثون والمبتعثات في الدول الغربية, سوف يسهم في خفض عدد من طلبات الابتعاث من ناحية ويساعد المتعثرين دراسيا وثقافيا في الدول الأجنبية من التغلب على الصعوبات وحل المشكلات من خلال العودة إلى الوطن ثم المرور عبر هذه البيئة الأكاديمية الغربية المصغرة, وبالتالي منحه أو منحها حرية الاختيار في الاستمرار في إكمال الدراسة مع الطلاب الدارسين بهذه الجامعة في وطنه أو العودة مرة أخرى لاستئناف الدراسة في مقر البعثة سابقا.