يوسف المحيميد
كلما تحدثنا عن أزمة تطرف الفكر التي مررنا بها في الثمانينات، يرد إلى أذهاننا مباشرة الفكر المتطرف في بعده الإسلامي فقط، دون النظر إلى سطوة الأيديولوجيا ذاتها في مجالها الأكثر شمولا، أيا كان اتجاهها، صحيح أن التيار الإسلاموي كان حادًّا، ونشطًا، وطموحًا، وقادرًا على التأثير أكثر من غيره، لكن التيارات الأخرى أيضًا كانت حاضرة في العالم العربي، بصورة أو أخرى، خاصة الماركسية والشيوعية، التي تركت أثرها الواضح على الثقافة والفنون، وعلى قطاع النشر في بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها.
أتذكر كيف كان بعض المثقفين يشتمون بعضهم بعضًا، أو يطلقون سرًّا الاتهامات والنمائم تجاه بعضهم، من قبيل: فلان برجوازي! أو رأسمالي، أو إقطاعي! فحينما يمتلك هذا آل (فلان) سيارة فاخرة مثلا، أو عقارًا يؤجره، أو مؤسسة صغيرة، أو حتى دكانًا متواضعًا، يصاب بلعنة هؤلاء، وغمزهم ولمزهم، وكأنما عليه أن يعيش متشردًا صعلوكًا، كي يصبح مثقفًا في نظرهم!
هذا الأمر يشبه إلى حد ما، وإن كان بصيغة مختلفة، رفض المتطرفين التكفيريين، العمل في وظائف الحكومة، بحيث يعتبرون ذلك كسبًا محرمًا، فقد جاء من جهة يعتبرونها غير مسلمة، لأنها ببساطة لا تتفق مع حدَّة موقفهم، ولا مع نظرتهم الراديكالية الدينية!
تذكرت كل ذلك وأنا أقرأ موقفًا طريقًا ذكره آرثر باور، في كتاب (الغصن الذهبي) وهو يتحدث عن سينج، الكاتب الإيرلندي الذي يراه جيمس جويس إنسانا صعب المعاشرة، إذ قال عنه صاحب «أوليسس»: إنه يتأجج ويغتاظ من أجل لا شيء. أتذكر أني ذهبت إليه ذات مرة لأقترح عليه قضاء 14 يوليو (عيد الثورة الفرنسية) في حديقة سينت كلاود، غير أن سينج أغتاظ جدًا من فكرة قضاء يوم عطلة مثل - حسب التعبير الذي استعمله - أي برجوازي يشارك في نزهة على العشب، ورفض الذهاب معي!
هذه النظرة السطحية إلى الأشخاص، وإلى الأشياء، هيمنت على كثيرين، في أزمان مختلفة، وفي دول كثيرة، سواء في الدول العربية، أو حتى الأوروبية، والخلاص من هيمنتها يبدأ بالتخلص من سطوة الآيديولوجيا ذاتها، فهي من تضع المسلمات الراسخة التي لا يمكن تجاوزها، فأغلب المبدعين الذين تَرَكُوا إرثا إبداعيًّا لافتًا، هم ممن تخلص من الآيديولوجيا، وخرج مبكرًا من الحزب إلى غير رجعة، لأن كافة أشكال الفنون، والإبداع عمومًا، يراهن على حرية الفكرة وتمردها، وتجاوزها للمألوف، فهي ليست صوتًا للحزب، ولا للجماعة أو الطائفة، وإنما هي صوت الفرد في قلقه، ونزقه، وتمرده حتى على ذاته، وعلى تبلّد هذه الذات وسكونها!
حتى على المستوى البسيط، للشخص العادي، وبعيدًا عن الفن والإبداع، فإن تحرر الإنسان من الأفكار المسبقة، الأفكار الجاهزة، هو بداية المشي على طريق جديد ومختلف، فمن منا لا يرغب بالتميز والاختلاف والفرادة؟