د. حمزة السالم
نشر رحلة العمر على الملأ، أمر شاق وعسير، فمتى استجلب المرء الحرف استجلابا جاءت تعابيره تحمل من المعاني ما يحمله تمثال أجوف، يتسلق عليه الصبية ويجلس عليه المارة. لا يحرك فِكراً لمُفكر ولا يُحيي عبرة لمُعتبر.
لذا قررت ألا ألتزم بموعد محدد، ولا أتبع تسلسل الزمن، فالنفس في جياشها مأمورة، فسأدعها وشأنها. فمتى جاشت تركتها وشأنها مع القلم، يغرقان في عناق المحبين. حتى إذا انفض عناقهما جئت بمشرط الجراح، ليستأصل ما قد يؤذي الحبيب، أو يخل بقدسية سر أمين، أو يستفز مقص الرقيب، فيعود بنقمة تجربته أو بحنكة خبرته، فيدفن ذكرى السنين، دون تمييز، في سلة مهملات الممنوع من النشر.
والكتابة عن الذات أمر عسير على القلم لأن فيها سرداً لأحداث العمر، فتُستَفزُ به المشاعر فتتعب النفس ويلحقها الألم من وخز مخراز الذكريات التي تذكرها ضياع تاج العمر في تحصيل علوم ومهارات ومدارك، لم تنضج استيعابا وفهما إلا من بعد أن كسر العقل قيود الاتباع، فتحرر من سجن التبعية العتيد. فمتى استيقظ الحس، تنبهت صحوة الإدراك، التي ما أتت إلا وشمس العمر قد مالت نحو المغيب.
والأجل المحتوم لا يفتأ إلحاحا يلح بتذكير النفس باقتراب ساعة المغيب، وضياع فرصة حصاد ثمر دروس الزمن الطويل.
ومن صحا من غفلة الفكر لا يستطيع إنكار الحقائق وتستعصي عليه نفسه فلا يستطيع خداعها. وتمنعه نفسه القلقة من الخلود للامبالاة، ولذا فما وجدت نفسي إلا وهي تسابق دقات ساعات الزمان، تريد قطع الطريق قبل المغيب، فما خانتني قدماي، لكن بعض قومي نيام يسدون قارعة الطريق. يمنعون السالك، سواء أجاء يسعى نذيرا عريانا او جاء راجيا نخوة رجل، ولكن هيهات فما كل ذكر برجل رشيد وما كل ذي آذان بسميع.
فقد أثقلت التخمة بطون أغنيائهم فأفقدتهم أحلامهم، وأورثتهم نهما لا يشبع، وأضعف الجوع أبدان فقرائهم فأفقدهم آمالهم فأورثهم الحس البليد.
وحرية العقل التي أتت على المشيب، كحرية كهل قد شب وشاب وهرم في سجن عتيد عتيق النظام غليظ المعاملة، قد ألفه السجين، واعتاد عليه حتى أحبه وعشق نظامه وتشرب سلوك من فيه، حراسا كانوا أو مساجين. وثم، ليخرج حرا طليقا لا ينتظر أمرا ليأكل وأمرا ليشرب وأمرا لينام فلا يصحو على بوق نافخ ولا على صياح غليظ. وليجد الكهل الطليق نفسه بعد ذلك في مدينة ترفيه ولعب، لم يتخيلها قط. فما من كتب في مكتبة السجن، إلا ما يحكي علوم سلوك المساجين وتاريخ تمجيد السجانين العظيم. فيستنكر الهرم الطليق، العبث والسرف والمجون، ويستقذر سلوكهم في تكريم المهرج السفية، واهانة الحارس الامين. فيعجب منهم ويعجبون منه، حتى يظن في نفسه جنونا ويظنون فيه خبالا.
ومن خرج من سجن الفكر العتيق، لا تحن نفسه إليه أبدا، ولو وجد نفسه في مصحة المجانين ووكر السحرة والمشعوذين وسيرك الهرج والمهرجين. ولو سولت له نفسه بالعودة لسجنه القديم، فهيهات، فسجن العقول العتيق، عتي الجُدر شديد المنعة في الدخول، كما هو شديد المنعة عن الخروج.
وفي الاغتراب اعتزال لا تصوف فيه ولا انقطاع. فسياحة الأرض متفكرا في حياة شعوب لا يعنيك أمرها ولا يهمك شأنها، مد للأجل القريب وابتعاد عن حياة هزل ممثلي المسرح الكبير وصخب سيرك المهرجين.
والعين إذا ما تجردت وكان لها قلب حي فطين، وفكر متوقد ذهين، رأت أسباب العزة والذلة ماثلة أمامها في طرق حياة الشعوب. فهناك شعوب سعيدة غير متوترة، يسهرون الليل على القداح يديرونها بينهم، حتى إذا طلعت تباشير الصباح رأيت عواصم بلادهم كمدن الأشباح، لا تجد فيها من قهوة تُدار، ولا طعام لإفطار، فالناس للتو قد صاروا نياماً. وترى شعوبا قلقة متوترة تخلو شوارع عواصمها مع مغيب الشمس، حتى إذا انشق فجر صباحها، شممت نسيم القهوة في أرجائها، قد ازدحمت مقاهيها بالقاصد لعمله ليتلقط ما يعينه على الانتباه، أو المنتهي من ترويض جسده ليكافئها بقطعة عجين مُحلاة. يلتقط أحدهم قهوته وهو يسعى حثيثا لعمله، فليس هناك فسحة لقهوة تُدار ولا هدر لزمان ثمين. فيا ترى بماذا سعد أولئك وبماذا توتر هؤلاء.
هو هم مجد الأوطان. أقلق الأمم العزيزة فتوتر مجتمعها، فما أن تغفو جفونهم، حتى يُصبِحَهم الهم العظيم. وتبلد عنه حس الأمم الذليلة، فناموا نهارهم حتى يُمسيهم الهم الوضيع. ولهذا تسود دول وتعز شعوبها، وتهان أخرى ويُذل أهلها.