محمد عبد الرزاق القشعمي
ومن هذه العزلة فسدت ألفاظه فكثرت فيها العجمة، وفسدت معانيه لإسراف الشعراء والكتاب في التدقيق، وفسدت أساليبه فظهرت فيها الركاكة والغموض... فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الإنتاج الأدبي بمجرد أن انقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية. بل كان فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة، ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى ولم تكن تدوّن في البادية وإنما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين ثم يذهب بها صوت الرواة والحفاظ وتنتثر في الصحراء كما تنتثر الرمال بتأثر الرياح.
وقال: أما نجد فإن حياتها الأدبية قد ضاعت ضياعاً تاماً إلى أواخر القرن الثامن عشر تقريباً.
وفي الجزيرة العربية أدبين مختلفين: أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدها بل في البوادي العربية كلها: في الشام ومصر وإفريقيا الشمالية...
أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادة. وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير...
على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثاراً خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقتها بالأمم الأوربية أيضاً. هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبدالوهاب، شيخ من شيوخ نجد... ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جداً أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول. ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب. وقد كان هذا الأثر عظيماً خطيراً من نواح مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلاً أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم واللسان. وهو قد لفت المسلمين جميعاً وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب.
وقال في آخر بحثه: «.. وقد بدأت بشائر الحياة الجديدة ظاهرة جلية. ففي مكة صحيفة تنطق بلسان الحكومة وتنشر أدباً وسياسة على نحو ما كانت تفعل الجريدة الرسمية أول الأمر، كانت القبلة أيام ملك الهاشميين، وهي الآن تسمى أم القرى. وكانت في مكة مجلة الإصلاح، وفي مكة مطابع، وفي مكة أيضاً وغيرها من مدن الحجاز مدارس مدنية على نحو المدارس المصرية.. » وقال: «.. وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه إلى مصر ليدرسوا بل يريدون أن يبعثوا أبناء الحجاز إلى باريس ولندن. وقد بدأ الحجازيون المجددون ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد، ولكنهم لم يوفقوا بعد إلى أن يكونوا للحجاز شخصية أدبية، إنما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين إلى أمريكا بنوع خاص، فمثلهم العليا في الأدب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما.
واختتم الموضوع بقوله: «وجملة القول أن جزيرة العرب الآن تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة العقلية: إحدهما محافظة قديمة لا تزال قوية بحكم الجهل وانتشار الأمية، والأخرى مجددة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية، وسيشتد الصراع بين هذين النوعين من الحياة، ولكن النصر محقق للحياة الجديدة لأن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الأوروبية، ولن تستطيع أن تغلق أبوابها بعد اليوم في وجه هذه الحضارة.
وقد يقال إن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الإسلامية في القرون الأولى ثم أغلقت من دونها فما الذي يمنع أن تفتح للحضارة الحديثة الآن ثم تغلق من دونها بعد حين؟ والجواب عن ذلك يسير سهل: فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهور الإبل وفي الكتب المخطوطة، أما الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات والبخار والتلغراف والتلفون والكتب المطبوعة والصحف والمجلات، وأنى للبادية أن تقاوم هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إذن للحياة الجديدة لجزيرة العرب، وسيكون هذا المستقبل قريباً في بعض البلاد وبعيداً في بعضها الآخر، ولكنه سيكون على كل حال».. طه حسين. ما سبق ذكره كتبه عميد الأدب العربي قبل نحو تسعين عاماً من الآن.