قيل أن الفرزدق إذا سمع أحدَهم ينادي: إنّ في المربد قصيدة تُنشد لجرير يمتقع لونُه! فإذا قيل له إنها في البعيث يا أبا فراس سُرّي عنه!! وإن لم يكن كذلك لما اشتد واجتهد وأخرج ما في جعبته ومن جراب عقله أفضل سهام اللفظ والمعنى بأقذع الهجاء والذم وأجمل عبارات الغزل والعشق وأسمى عناوين الفخر والمدح حتى قيل: إن الفرزدق ينحت في صخر! وهذي دلالة على استجداء الذاكرة لاستحضار المعاني والصور وانتقاء الألفاظ بعناية تدل على مهارة وراثية ومكتسبَة في استخراج ما في طبيعة الحياة من مكامن اللغة التي يعيشها وفي المجتمع الذي يستمد منه جوهرها الطبيعي!! وشهادة ذلك قوله لخلع ضرس أهونُ عليّ من قول بيت من الشعر! فالمنافسة والاختلاف يولّدان طاقة مختزلة لا تعمل إلا إذا احتدمت المعركة حينها يتطاير منها الشرر ويستنفر كلٌ على حدة جميع قواه ويستقصي في ذلك ما قدر عليه وما أحاط به عقلُه ويكون الحاجز النفسي هو اللاعب الأساسي في طول النفس من عدمه كقوة إضافية للتطور والازدهار المستمر في اللغة بمضامينها وألوانها وأشكالها وهذا ما حدى بالنقاد الكلاسيكيين أمثال عمرو بن العلاء والأصمعي وغيرهما من دعاة الشعر الجاهلي والمخضرم أن يستسلموا للجديد الذي يعتبر تطوراً وامتداداً للقديم ويشهدوا له بعد سباق ماراثوني على رفضه حتى قال عمرو بن العلاء: لقد كَثُر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت آن آمر فتياننا بروايته!!. والمجالس الثقافية القديمة تعتبر كسبب رئيس في التطور الثقافي لاتخلو من سجالات تصل بعضها إلى الهجاء المقذع حين يُفحم أحدهم أو تُقام عليه الحجة وهي شاهدة على ثقافة المجتمع وأدبه وعلى حرص رجاله على عدم الوقوع في الغلط أو التحرج أمام خصمه أو الغض منه خوفاً أن يطوله ما يُعيّر به الأعقاب ولا يقدر أن يدفعه! والنقائض العنوان الكبير للأدب الأموي إنما كانت شرارته من مجلس بشر بن مروان الذي أغرى الأخطل بالتفضيل بين جرير والفرزدق ! ومات النميريّ بعد عام متحسراً من قصيدة جرير فيه وفي بني نمير! وسيبويه مات كمداً كما قيل من خطئه في المسألة الزنبورية مع اختلافهم في ذلك! وعبدالرحمن شكري مات مكتئباً من خصومته الأدبية مع صديقه المازني ! ولن ترى أحداً في وقتنا يشتد عليه أثر الهجاء من خصومة فضلاً عن أن يموت منها كمداً !!
وهذه مسألة طردية حين لا تكون المجاملات طاغية على المجتمع المثقف فينام نومة ثقيلة لا يشعر بالوقت الذي يمضي إلا حين يرى من حوله وصلوا إلى غايات بعيدة ويستيقظ على جسم أتعبه السهر دون أن يكون قايظ بذلك
مستقبلاً مشرقاً يصل به ماضيه بحاضره بمستقبله !!
فالاختلاف كما قيل رحمة ليس في الفقه فقط بل حتى في الثقافة والأدب على وجه الخصوص وإن كانت أكثر إيلاماً وفرقةً وكلما اشتدت الخصومة وحام حولها الموالون والمعارضون خرج لنا أدب وشعر بحُلة جديدة لحقبة قد يظن البعض أن الأدب والشعر توقف عندها وبلغ نهايته بحدودها:
ولولا اشتعالُ النارِ فيما جاورتْ
ما كان يُعرف طيبُ عَرف العودِ
والأحداث الجسام التي نمر بها يُفترض أن تحقق المثل
القائل: مصائب قومٍ عند قوم فوائد! وأن تتكون مادة دسمة تتبلور فيها الأفكار والرؤى يتمخض عن ذلك ألوان من الأدب الجديد وأشكال من الشعر بخصائص متجددة يسبق الماضي بحوادثه وبوقائعه! فأين حادثة دنشواي مما يحدث اليوم ؟! فبينهما بون شاسع من الألم والوجع والخسارة ! وإن كانت كذلك ! ولكن الفضل كله لحافظ وشوقي وغيرهما ممن جعل من دنشواي كارثة يتذكرها المصريون بل والعرب كلما فتحوا كتاباً في تاريخ مصر دراسياً كان أو غير ذلك تجد حادثة دنشواي متصدرة المشهد الأدبي والشعري !! ومع هذا نجد أيضاً الرواية التي أصبحت كاريزما هذا الوقت أيضاً لم تترك لذلك مجالاً فاكتسحت العقول والقلوب وغيّبتهم عن الشعر حتى متعاطي الشعر أيضاً خلع معطفه الشعري ولبس معطف الرواية! على إنها ليست من العاطفة والطرب والشجن وإذكاء النفس والحميّة ما للشعر! صاحب ذلك خمول الأندية والمراكز والمؤسسات الثقافية والتي همها الانتخابات والسباق نحو الكراسي الفارغة! بل بلغ بأحد الأندية رفض أي نتاج أدبي ما لم تكن رواية بما فيهم الشعر!!.
هل مات الشعر ؟ أم مات الشعراء ؟
الأولى قضية لم تُبعث منذ سبعين سنة ونيّف عندما قالها لويس عوض دون حرف الاستفهام ولم يفلح ! ولكننا نراها الآن تستوفي حقها ببطء ! أما الثانية فاعتقد ذلك !
عندما تكابدت على الشعر واللغة معاول الهدم من أنصار الأدب الغربي في مطلع القرن العشرين وحاولوا إقصاءه كانت حركات التجديد تنشط عبر المدارس الشعرية كمدرسة الإحياء والديوان وأبوللو وغيرهما وتبعهم أقلام النقاد يكيدون للشعراء يتتبعونهم في حلّهم وترحالهم ويقسّمون في نقدهم الشعر أثلاثاً وأرباعاً وأنصافاً كالفرنسيين وإن لم يكن خطأً عدّوه كذلك ! فازدانت الحركة الأدبية وتطورت وخرجت ألوان من الأدب والشعر محاكاة للأدب الأوربي والأمريكي أشبه بألوان الطيف في تنوعها وتطورها! فالشاعر والناقد وجهان لعملة واحدة وجنباً إلى جنب ينشدان القيمة الجمالية للشعر التي تنبعث من موضوعاته وخصائصه ليحكي لنا وللآخرين حياة كانت بالأمس تعيش على تلك البسيطة! ما لم يتقاعد أحدهما بسبب ندرة الشعراء أو النقاد أو نفادهما من الساحة الثقافية والأدبية، فالعالم العربي والإسلامي تمزق طائفياً وسياسياً واختلفوا فيما بينهم اختلافاً بيّنا ولم يبق إلا التجاذب بالتلابيب والشعور كيوم البسوس ومع هذا غضّوا أبصارهم عما يخلّد أفراحهم وأتراحهم تخليداً يليق أن يُذكر في بطون الدواوين والكتب! بعيداً عن الطائفية والعنصرية! فلا أدري هل العيب فينا حين لم ننجب شعراء بقيمة من رحلوا؟ أم العيب في الشعر واللغة وكأنهما توقفا في زماننا كاستراحة يُكملون الركض بعدها مع أناس يخلصون للغة الشعر حين يأتلفون وحين يختلفون!!
- زياد السبيت