لا تعني الحُرية الهرولة عبثاً في مضمار لا نهاية له، فالحرية مسؤولية، وهي ركن أساسي من أركان المجتمع المتمدن، لأنها تحقق أهدافاً تنموية شاملة، وتساعد على رفع الوعي وتحقيق النهضة الفكرية، ولكننا في المجتمعات العربية قد انشغلنا عن ممارسة الحرية بتقديم الحجج على جوازها، وإثبات وجودها أو نفيّه، ونسينا أن الحرية تموت حين نحاول أن نثبتها أو ننفيها. كما قال الفيلسوف ألن حين قال «إن تقديم حجة على وجود الحرية سيقتل الحرية».
ودائماً ما يلعب المعارضون للحرية على وتيرة الدين، باعتبار أن الحرية تتعارض مع الدين، رغم أن الدين من الأساس قد كفل لكل فرد حرية الإيمان والاعتقاد، ورغم أن المنادين بالحرية قد أكدوا في أكثر من مرة على أن الحرية هي دائماً حرية مسؤولة وليست حرية مطلقة غير مكلفة، فتلك الحرية المطلقة غير المكلفة هي حرية بهيمية وليست حرية إنسانية!.
وربما تبرز مشكلة فلسفية في بعض المدارس الفلسفية الغربية بين علاقة الحرية والدين وإرادة الفرد المطلقة، ولكن تلك المشكلة سرعان ما تخفت وتختفي حين يعرف الفرد أن الرسل قد جاءوا مبعوثين، مبشرين ومنذرين، وقد تركوا لكل فرد حرية الإتباع من عدمه، والدلائل على ذلك كثيرة فقد قال الله تعالى «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».
ولعل أبرز السمات التي تحققها الحرية في المجتمعات التي آمن أفرادها بالحرية ومارسوها، هي تحرير العقل من ذلك الجمود العقائدي، ولست أعني هنا عقائد الأديان، وإنما أعني تلك النظم والأقوال والأفكار والمبادئ والعادات والتقاليد والشرائع المجتمعية التي قبلنا بها واحتلت عقولنا بأسبقية الوصول إليها، حتى صرنا نرفض مناقشتها أو إعادة صياغتها، بل وصار منا من ينسبها عمداً أو جهلاً إلى التشريعات السماوية وهي أبعد ما يكون عن ذلك، بل أن ذلك أدهى وأمر من الأخذ بها كعادات لا نود الاستغناء عنها. والحرية أيضاً تساعد على نقل الإنسان من بناء اجتماعي غير متطور إلى بناء اجتماعي متطور، وهذا ما أقصده حين أشرت إلى تحرير الإنسان من سيطرة أفكار المجتمع عليه حتى وإن كانت خاطئة.
يقول أحد الفلاسفة «إن فكرة الحرية المطلقة التي يمكن أن ننعتها بالميتافيزيقية، وخاصة في تعارضها مع الطبيعة تقتضي وجود فعل إنساني محرر من جميع العلل» وهو هنا يتحدث عن النظرة الفلسفية الخالصة للحرية بعيداً عن كل تعقيدات التاريخ الاجتماعي لمجتمع ما، وما تقوم به بعض العادات من حصار لحرية الفرد وممارساته الإبداعية. فكم من إبداع قد خاب ومات بسبب القيود الاجتماعية والفكرية.
سألتُ ذات مرة أحد الروائيين:
• لماذا لم تطرح كل أفكارك التي لطالما آمنت بها وناقشتنا فيها؟
قال حزيناً:
المجتمع لن يتقبل روايتي لو طرحت كل أفكاري.
ثم أردف بعد صمت:
أعرف أن روايتي قد صارت مسخاً لا تشبهني، كتبتها دون أن أشعر بها، ولكن الحقيقة لا يجب أن تقال دائماً.
قلت:
حتى وإن كان على حساب إبداعنا!
قال:
نعم
وبطبيعة الحال فإن ذلك يعد إزهاقاً لروح الإبداع التي تكفلها الحرية، ولعل نموذج الحرية السالبة والحرية الموجبة التي قدمها إيمانويل كانت، هو أبرز نموذج إبداعي حر حيث يعني بالحرية السالبة حرية الفرد في ممارسة أفعاله وأقواله دون إكراه طالما لم تتعدى حريته لتؤذي الآخرين، بينما الحرية الموجبة هي تلك الحرية المعطاة من المجتمع أو الفرد لشخص آخر لكي يمارس حريته السالبة الشخصية. وأعتقد أن ذلك النموذج هو ما يكفل لكل فرد الضمانات بالإبداع.
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
AaaAm26@