وحين كان ماركس يدرس في الجامعة كانت الفلسفة الجامعية خاضعة لتأثير هيجل، فانضم ماركس إلى مجموعة اسمها «الهيجليون الشبان» ولكنهم اختلفوا عن هيجل قليلاً، وتمردوا سياسيًا وفلسفيًا على أوضاعهم الصعبة، وكان ماركس أشدهم تمردًا.
كان هيجل يرى أن العقل هو الفاعل المؤثر في التاريخ كما أسلفنا في المقالة السابقة، أما ماركس فقد خالفه في هذا، وقدم رؤية مغايرة، هي أن القوى المحركة للتاريخ تكمن في الأوضاع الاقتصادية للمجتمع قبل أي شيء آخر.. فالإدراك لا يتحكم في الوجود عنده، بل - وعلى النقيض تمامًا- يعتقد ماركس أن الوجود هو الذي يحكم ويحدد الإدراك.
لقد عدَّ ماركس بيعَ القدرة بأجر هو أساس الاغتراب الإِنساني، وهو يشرح مصطلحي (العمل - الاغتراب) عند هيجل، فقد شرحهما شرحًا ماديًا اقتصاديًا.
ونستطيع أن نختصر الكثير من أفكار ماركس، في اهتمامه بالعمل الحر الخلاق، باعتباره أساسًا للإنسان عنده، فالإنسان لا يصبح إنسانًا إلا بالحرية في عمله، لا بالعمل بأجر، المبني على بيع القدرة على العمل.
وهناك تشبيه لطيف وهو أن (النظام الرأسمالي) في نظر الماركسيين يشبه الحيوان الشره، الذي لا يشبع أبدًا، فهو يأكل كل ما يستطيع أكله، ولا يكتفي بالطعام العادي الذي يقدم له، ولذلك يجب أن يُلزم بـ «الريجيم» عندما يصبح سمينًا.
إن هذا النظام الذي رفضه ماركس وتمرد عليه بكل قواه، يجعل العمّال المساكين والكادحين يغرقون في بحار الفقر والتشتت والضياع والشقاء حسب وجهة نظره، فكلما تضخمتْ رؤوسُ الأموال الكبيرة للمالكين لوسائل الإنتاج تضخمتْ معها حالة البؤس والحاجة عند العمال الذين صنعوا بمجهودهم كل تلك الثروات الطائلة.
إن هذا الظلم الاجتماعي برأي ماركس، لا يمكن القضاء عليه بإصلاحات، كرفع الأجور وتحسين شروط وظروف وامتيازات العمل، بل يطالب ماركس دائمًا بقتل هذا النظام والقضاء عليه عن بكرة أبيه؛ لأنه غير قابل للإصلاح، ولا بد من إزالته لإزالة هذا الظلم الاجتماعي.
لم ينظّر ماركس في كتابه العظيم الثقيل (رأس المال) إلى الثورة، أي لم يكتب عن الصورة التنظيمية التطبيقية العملية للشراكة المجتمعية في وسائل الإنتاج، ولكنه أخبر أن الرأسماليين لن يتنازلوا بسهولة عن ملكية وسائل الإنتاج، ولذلك قال كلامًا كثيرًا خلاصته أن التغيير المنشود، المتمثل في نقل ملكية الإنتاج إلى المجتمع، لن يتم إلا بثورة تنتزع ملكية تلك الوسائل من الرأسماليين بالقوة، فقد كان مقتنعًا أن النظام الرأسمالي سيقتل على يد ثوار من طبقة عمالية منظمة سياسيًا.
يتكون كتاب «رأس المال» من ثلاثة أجزاء، وعدد صفحاته أكثر من 2500 صفحة، ويتناول العلاقات الاقتصادية المعقدة، وفيه كثير من الجداول والحسابات التقديرية والأرقام؛ وقد حقق نجاحًا باهرًا غير متوقع، فلم يكن يوحي عند نشره بأنه سيحقق هذا النجاح، بل على العكس، فقد ظهر عند نشره مؤهلاً ليكون كتابًا ضعيفًا.
إن النجاح العظيم الذي حققه هذا الكتاب الضخم يكمن في انتقاله من أساس للفلسفة الماركسية فقط، إلى مرجع لحركة شعبية سياسية، تسعى تحت مظلة الأحزاب الاشتراكية إلى أحداث تغيير جذري للنظام الاجتماعي.
يُسلّط الكتابُ الضوءَ على الآليات والمحركات الداخلية للمجتمع الصناعي التجاري الحديث، ومن أهم أهدافه القضاء على الصور الحديثة لاستغلال الإِنسان.
لقد كان ماركس يتنبأ بانهيار النظام الرأس مالي، وبنجاح الشيوعية الاشتراكية التي وضع من أجلها نظرياته، فالنظام الرأسمالي في نظره يحمل في داخله فيروسًا سيقضي عليه يومًا.. وحتى لو لم تتحقق نبوءته، فإن أطروحاته كانت وما زالت وستظل كالشوكة في حلق الأنظمة الرأسمالية في الغرب وغيره.
هذا الكتاب ليس تحليلاً اقتصاديًا ضخمًا يتحدث عن القيمة التجارية والإنسان فحسب، بل توضيح كبير للقيمة الحقيقية للإِنسان، في مجتمع قائم على العدالة الاجتماعية، وخالٍ من استغلال الإنسان للإِنسان.
يرى ماركس أن القضاء على الظلم الرأسمالي، يقضي على مرحلة يسميها «عصر ما قبل الإِنسان»، ويبدأ بعدها عصر الإنسان الذي لا يعاني من الاغتراب والظلم من أخيه الإِنسان.. إنه عصر الكرامة الإنسانية في نظره، الذي يستطيع فيه الإنسان تملك وسائل إنتاج عمله، فيحدد بناء على ذلك طرق الاستفادة من هذا الإنتاج، وهذه القيمة الحقيقية الراقية للإِنسان، هي التي تجعل جهده خادمًا لطاقاته وقواه الخلاقة، وليس بجعله كالسلعة التي تباع وتشترى في الأسواق.
ونختم بنقطة مهمة، وهي أن الذين فسّروا فكر ماركس بغير مغزاه منه، اضطروه إلى التبرؤ من بعض التفسيرات التي أعطيتْ لكتاباته.
- وائل القاسم