مثّلت الصورة الغزلية واحداً من مصادر الصورة في الخطاب النقدي القديم وشاع فيه تشبيه الكلام بالجسد، كقول ابن طباطبا: «والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه»، غير أن المثير للانتباه اقتصار كثير من هذه التشبيهات على جسد المرأة، ولعل السبب أن «جمال المرأة أرفع أنواع الجمال».
ومن ذلك قولهم: «والمعاني إذا كُسِيَت الألفاظ الشريفة، وأُلبِسَت الأوصاف الرفيعة ... فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري، والقلب ضعيف وسلطان الهوى قوي».
ولا ريب أن جامع الجمال بين الجارية والمعاني والنظم هو الذي جعل الخطاب النقدي حفيّاً بهذا المصدر، إلا أن الناقد لا يشبِّه الشِّعر بالمرأة لوجود شبه حقيقي، بل لأن ثمة أعرافاً مترسخة في ثقافته تدفعه إلى هذا التشبيه، كقول ابن طباطبا: «وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها، فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسناً في بعض المعارض دون بعض»، وعلى غرار رأي ابن وكيع إذ عبّر عن تداول الشعراء للمعاني بقوله: «وقد بقَّى قائل الحكم المنثورة لسارقها من فضيلة النظم ما يزيد في رونق مائها، وبهجة بهائها، فهي كالحسناء العاطلة، حليُها في نظامها، فإذا جلاّها النظم نُسبَتْ إلى السارق، واستُحقَّتْ على السابق، والمعنى اللطيف في اللفظ الشريف كالحسناء الحالية».
ورَأْيُ ابن وكيع هو نفسه رأي الصاحب بن عَبّاد، ولكنه رأى أن المتنبي في سرقاته من أبي تمام جنَى على المعاني، فهو «يسرق منه ويأخذ عنه، ثم يخرج ما سرقه في أقبح معرض، كخريدة أُلبِسَت عباءةً، وعروسٍ جُلِيَت في مسوح».
ولم يبعد الخليل عن الأخذ من هذا المصدر حين شبّه الزحاف إذا ورد في الشعر وروداً سائغاً بالقَبَل والحوَل واللَّثَغ في الجارية إذا كان قليلاً؛ فإنه يُستحسَن قليلاً، ويُستهجَن إذا كثُر، جاء في طبقات فحول الشعراء عن الزحاف أن «الخليل بن أحمد يستحسنه في الشعر إذا قلَّ في البيت والبيتين، فإذا توالى وكثر في القصيدة سمج. فإن قيل: كيف يُستحسن منه شيء وقد قيل هو عيب؟ قال: يكون هذا مثل القَبَل والحوَل واللَّثَغ في الجارية، قد يشتهى القليل منه الخفيف، وهو إن كثر عند رجل في جَوَارٍ، أو اشتد في جارية؛ هجُن وسمُج».
وقد وصف الحاتمي المنظومَ بأنه «أرشق في الأسماع»، كما نقل التوحيدي أن «النثر كالحُرّة، والنظم كالأَمَة، والأَمَةُ قد تكون أحسن وجهاً، وأدمث شمائل، وأحلى حركات؛ إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة، ولا بشرف عرقها، وعتق نفسها، وفضل حيائها».
ومما نقل الحصريُّ من أوصاف العرب للنظم قولُهم: «قصيدة كالمخدَّرة الرشيقة»، و»نظمٌ كالخريدة تورّدت أزهار خدها».
إن مصدر الصورة هذا يدل على أن وراء الصورة مقاييسَ بنيويةً وجمالية ووظيفية تداولَها النقاد والبلاغيون، فهي تدل على ضرورة وجود الاتصال والتناسب والانتظام في النص الأدبي، وتتضح هذه الفكرة من قول العتابي: «الألفاظ أجساد، والمعاني أرواح»، ويجلِّي هذه الصورةَ أكثر تعليقُ أبي هلال العسكري على قول العتابي: «وقد أحسنَ في هذا التمثيل وأعلمَ به على أنَّ الذي ينبغي في صيغة الكلام وضْعُ كلّ شيءٍ منه في موضعه ليخرج بذلك من سوء النظم».
هذا عن الصورة الغزلية في مقام وصف جمال القصيدة، وتناسُبِها، واتصال أبياتها، غير أن ثمة صوراً تندرج تحت هذا المصدر، وظفها النقاد في وصف جِدّة المعاني، على غرار ما قاله الصولي: «وجاذبني يوماً بعضُ مَن يتعصب على أبي تمام بالتقليد لا بالفهم، ويقدم غيره بلا درايةٍ فقال: أيُحسِن أبو تمام أن يقول كما قال البحتري:
تَسرَّعَ حتى قالَ مَنْ شهِدَ الوغى
لقاءُ أَعادٍ أم لقاءُ حَبائبِ؟
فقلت له: وهل افتضَّ هذا المعنى قبل أبي تمام أحد في قوله:
حَنَّ إلى الموتِ حتى ظنَّ جاهلُه
بأنه حَنَّ مشتاقاً إلى وطنِ»
وقال القاضي الجرجاني في توارد خواطر الشعراء: «وإن افتـرع معنى بِكْراً، أو افتتح طريقاً مُبهماً لم يرض منه إلا بأعذب لفظ، وأقربِه من القلب، وألذِّه في السمع»، وقولهم: «قصيدة لم أرَ غيرَها بكراً».
ويرى عز الدين إسماعيل أن كثيراً من هذه الصور القائمة على أساس نفسي تأتي نتيجة لإثارة فسيولوجية أو جنسية.
- د. سعود بن سليمان اليوسف