هل تعرف الشعور حين تصحو من نومك فزعًا بسبب كابوس، ثم تستعيد هدوءك شيئًا فشيئًا حين تتأكد أنك لا تنزف ولم يأكلك تنين ولم تفقد أنفًا أو أذنًا، أنت ما تزال جسدًا واحدًا، لكنك ما تزال لا تشعر بالراحة، تعرف أن ثمة شيء ليس على ما يرام، وتعرف أنك بعد الكابوس لست مثلما كنت قبله، شيء ما يضطرب في عمقك مثلما يثير الأخطبوط رمل البحر في القاع البعيد، يسكن الرمل ويبقى أثره يعكر الماء القريب..
هل كانت هذه بداية غريبة؟! حسنٌ، ربما كانت بعض الشيء، لكني وجدتها الوصف الأقرب للدقة بعد أن فرغت من قراءة رواية «جوز الهند» للكاتبة الجنوب أفريقية كوبانو ماتلوا (فازت بجائزة وول سوينكا للأدب الأفريقي عام 2010 والجائزة الأدبية للاتحاد الأوروبي، صدرت عن دارجاكانا ميديا عام 2007) التي تتحدث عن فتاتين سوداوتين تنشأان في محيط أبيض، وفي محاولة منهما للنجاة، تتخليان -بوعي أو بلا وعي- عن هويتهما الحقيقية.
تنقسم الرواية إلى جزأين أفردت الكاتبة الأول منهما للحديث عن أوفيلوي، المراهقة التي تعيش في جوار أبيض وترافق فتيات بيض وتحب أن تعيش مثلهم، ولم تكن أمها ترى عيبًا في ذلك، وكانت تشعر دومًا بحماس يحرج أوفيلوي كلما زارتها صديقاتها من البيض! الوحيد الذي كان يعترض على ذلك هو الأخ تشيبو الذي كان ينبهها باستمرار على محاولاتها «غير الواعية» للانسلاخ من هويتها، وأنها حتى عندما كانت تزين جدران غرفتها بصور لنجوم كشأن كل المراهقات لم تختر واحدًا ببشرة داكنة! كانت تلك لحظة المعرفة الأولى -إن صح التعبير- اللحظة التي وعت فيها أوفيلوي أنها تتشبه بالبيض معتبرة أن ذلك نمط الحياة الطبيعية، وبعدها تقطع علاقتها بصديقتها المقربة (البيضاء) وتبدأ محاولات جادة لتعلم لغتها الأم.
لكن فيكيلز، الفتاة التي احتلت القسم الثاني من الكتاب، كانت ترى الأمر من منظور مختلف تمامًا، فهي تحاول قطع علاقتها بجذورها السمراء، فتتعلم الإنجليزية بطلاقة وترفض الحديث بغيرها وتنقطع عن الذهاب إلى المدرسة التي يكثر فيها الطلاب السود، وكانت تعبر عن اشمئزازها من أحاديث الفتيات وجدائلهن المضفورة احتفالًا بالعام الدراسي الجديد والتي ستبقى لأسابيع دون غسيل، لم تر في تلك المدرسة سوى مرتع للقذارة! حين سألتها معلمة الابتدائية ماذا تود أن تصبح عندما تكبر قالت: بيضاء! وظلت مصرة على رأيها رغم محاولات المعلمة بإقناعها باستحالة ذلك.
استعاضت فيكيلز عن المدرسة السوداء بمجلات تهتم بحياة المشاهير البيض مؤمنة أنها يومًا ما ستحظى هذا ما كانت تردد لنفسها دومًا!(Fake it till you make it) بحياة مماثلة، فيكيلز هنا تشبه بيكولا بريدلوف -بطلة رواية العين الأكثر زرقة لتوني موريسون- في سعيها الجاد للحصول على بطاقة الدخول نحو العالم السحري، عالم البياض، كل منهما تبحث عن عراب مثل جنية سندريلا ينقلها بضربة عصا واحدة إلى عالم السعادة المطلقة، وجدته بيكولا في المشعوذ الذي أفقدها النظر، وتظن فيكيلز أنه بول، الرجل الذي يدعوها لترك عملها كنادلة في مقهى سيلفر سبونز وأن ترحل معه واعدًا بمنحها ما يعادل راتبها في المقهى لعام أو اثنين، ما يعني أنها ستقدم كثيرًا من التنازلات!
تبدو فيكيلز مثل ثمرة جوز الهند، داكنة من الخارج وناصعة البياض من الداخل، فقد ظلت مخلصة لبياضها الداخلي -دون أن يكون معادلًا لنقاء السريرة هنا- حتى بعد تعرضها لهزات تركت في نفسها أثرًا يشبه بقايا الفزع بعد كابوس مرعب أو مثل أثر الرمل الخفيف الذي يثيره الأخطبوط، بحثًا عن النجاة في عالم لا يرى في السواد أكثر من «وصمة»!
كيف تكون أسود - كيكي نيكول*
احلُمْ بطلقاتٍ ناريّة تلك التي تخترق رأسك ويظلّ يتردّد صداها تلك التي يتموضع رصاصها في دماغك من النوع المحفور في شجرة عائلتك احلُمْ بجريمة قتل. وتذكّر، ثمّة مذبحة جماعيّة لكلّ جيل ونفس الدم سيندفع من رأسك في الشارع… في الشارع… في الشوارع… شوارعِنا تذكّر من تكون تجري في دمك مذابحُ من سبقوك.
وجميعهم يشمّونها
كلّ ما في الأمر أنّهم يتجاهلونها فحسب.
- ترجمة/ سلمان الجربوع
... ... ...
- بثينة الإبراهيم