أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: حديثُ هذه السبتية هو نهايةُ الكلامِ عن عُقْبَى التَّربيةِ الرَّمضانية؛ لأنتقل إلى مواضيعَ حيويةٍ أخرى إنْ شاء الله تعالى، وأُوْجِزُ ما أسْلَفْتُه: أنَّ مَنْ أتْبَع شهر رمضانَ المبارك بَقِيَّةَ عُمْره (حَسَبَ القدرة) على صفاتِ الاحتسابِ والتَّلَذُّذِ بِمُناجاةِ الرَّبّ سبحانه وتعالى؛ وفي قِمَّةِ ذلك أداءُ الصلوات الْمَفْروضة في وقْتِها جماعةً مع المسلمين في المسجد، وتفريِغُ أوْقاتِ النشاطِ في التَّفَقُّهِ في كلام الله سبحانه وتعالى، وسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالةً وثبوتاً،ولغةِ العربِ التي جَعَلَها الله بياناً لأحكام الشرع وأخبارِه، وتحريرِ البراهينِ مِن آياتِ الله في الأنْفُسِ والآفاق (وذلك هو نظرية المعرفة)؛ وكلُّ أنواعِ هذا التفقُهِ مِن أَهَمِّ العباداتِ؛ وهو الإمامة في الدين؛ فالعالِـمُ العابِدُ في الذُّرْوَةِ مِن أولياءِ الله؛ فكلُّ ذلك استقامَةٌ على أحبِّ ما يحبُّه الله إلى أنْ يكونَ لقاءُ الله سبحانه وتعالى؛ وكلُّه بالله ثمَّ ببركات التربيةِ الرمضانيةِ التي تَجْتَلِيْ جوامِعَ الْـكَلِمِ في الدعاء؛ فأمَّا سُنَنُ الرواتبِ، وصلاةُ الضُّحى : فهنَّ الامتدادُ المبارَك للعبادَةِ النشيطةِ في شهرِ رمضانَ المبارك تراويحَ وقياماً .. قال الإمامُ أبو محمد عبدُالـلَّهِ بنُ أحمد ابنُ قدامة [541 - 620هـ] رحمه الله تعالى في كتابِه الفحلِ (المغني) 2/539 عن الرواتب ((وَهِيَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ)).
قال أبو عبدالرحمن: وردتْ أحاديثُ بالزيادةِ على ذلك، وقد تعقَّبها ابن قدامةَ بقوله ص 539- 540 : ((وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ [رضي الله عنهما] قَالَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللـَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ .. كَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا.. حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ [رضي الله عنها]، أَنَّهُ كَانَ إذَا أَذَّنَ الْـمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)).
قال أبو عبدالرحمن: حديثُ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما وما في معناه عن تَطَوُّعٍ غيرِ السُّنَنِ الرواتبِ الْـمُؤَكَّدَة؛ والأفْضَلُ بعد الرواتبِ وصلاةِ الضُّحى الانشغالُ بما عليه العلماءُ العبادُ من أنواعِ التفقُّه التي أسلفتها.. وأمَّا صلاةُ الضحى المؤكدةُ فقد صَحَّ بها حديثُ أبي هريرةَ وأبي الدرداء رضي الله عنهما : ((أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ : صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ)).
قال أبو عبدالرحمن: في حكمِ السنَّةِ المؤكَّدةِ بدلالة النصوص أنْ تكونَ صلاةُ الضُّحى ثماني ركعاتٍ خفيفةٍ في البيتِ إذا اشتدَّتْ حرارةُ الشمسِ إضافَةً إلى الركعتينِ الخفيفتين اللتين صلاهما بعد ارتفاعِ الشمسِ في المسجد.. قالت: أُمُّ هَانِئٍ رضي الله عنها: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ؛ فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا .. غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ))؛ وهو حديث مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وقد حقَقَّته في تحقيقي ضميمة أحاديث من رواية ابن مُسْهِر؛ وَوَقْتُهَا إذَا عَلَتْ الشَّمْسُ، وَاشْتَدَّ حَرُّهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ.. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)).. إلا أنَّه لا يُداومُ على ذلك؛ بل يستَغِلُّ بعض أوقات النشاط؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى قَطُّ))؛ وهو حديث مُتَّفَقٌ عليه؛ ولكنَّ معناه بالضرورة: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يداوم على ذلك؛ لأن صلاة الضحى منه صلى الله عليه وسلم ثابتة عنه بالأحاديث الصحيحة؛ ولأنَّ أم هانىءٍ رضي الله عنها أثببت صلاتَه صلى الله عليه وسلم عندها.. صلى في بيتها؛ وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.