(1)
لعقود كان المحتوى المرئي الذي يقدمه التلفاز المحلي، الذي تشرف عليه وزارة الإعلام أو مملوك لرجال أعمال سعوديين ويخاطب الجمهور السعودي، يواجه هجوماً لاذعاً من قِبل المشاهدين والنقّاد بسبب ما اعتبروه مخيباً للتوقعات ولا يرتقي إلى مستوى المأمول، مقارنة مع ما يحظى به من دعم مالي ضخم. إضافة إلى ما كانت تشكّله تلك الوسيلة في حينها من الانفراد بتوجيه المتلقي العربي ونشر الثقافة والوعي في المجتمعات.
أما في الزمن الحالي، والذي يشهد طفرة تقنية ومعلوماتية، لم يعد التلفزيون إلا نافذة ضمن مجموعة نوافذ تحاول الولوج إلى عالم المتلقي كي تنافس للبقاء كوسيلة مشاهدة بين بقية الوسائل المتاحة الأخرى التي تسعى للتأثير والانتشار. وبناء على النقد المشار إليه، وكذلك لكون شبكة التواصل الاجتماعي «يوتيوب» هي الأقرب لمنصة التلفزيون من ناحية الشكل والمحتوى، فإنه يفترض فيها أن تكون الوسيلة الأكثر تفوقاً على مثيلاتها في العهد السابق، والقصد بالتفوق هنا التفوق بجودة المحتوى. وعلى رغم من وجود عدد لا يستهان به من الحريصين على تقديم محتوى منوع يرتقي بذائقة المشاهد، إلا أن المتابع لا يستطيع أن يغمض عينيه عن طغيان التفاهة التي تسوّق بين يديه.
(2)
سنفرق بداية بين مسارين، الأول: البرامج، والثاني: المقاطع التي ينتجها عموماً الناس وتحولهم لمشاهير. في المسار الأول نجد أن في المحتوى المحلي أسماء وشخصيات لامعة ترجمت أفكاراً خلاّقة ومبدعة في مجالها، سواء الترفيهي أو العلمي أو الجاد. ورغم هذا التميز إلا أنها تغرق في بحر البرامج المتشابهة والمكررة.
ويغلب على برامج يوتيوب المحلية شكل «تك شو»، وهي برامج تقوم على فكرة استعراض المقاطع أو الأخبار من الصحف والتعليق عليها. ومن ناحية المبدأ: لا شك أن الفكرة منتشرة على مستوى العالم، لما لها من تأثير في المتلقي وأيضاً ما توفره من مساحة لاستعراض مستجدات الأحداث المنوعة. ولكن محلياً لم تقع تلك البرامج فقط فيما بينها في مستنقع النسخ المكررة بطريقة العرض، ولكن أيضاً في جانب الاستعراض والمعالجة. فهي لا تمتلك هوية تميزها عن مثيلاتها فيما تقدم؛ كونها تكرر ذات التعليقات الساخرة التي يصل بعضها لمرحلة الاستنقاص من ذات الشخوص. بل ليس من المبالغة أن تجد بعض الأخبار والمقاطع بعينها يتم تكراراها في البرامج، وهي صورة مشابهة لما كان يُعاب سابقاً على البرامج التلفازية، من أنها نسخ مكررة من بعضها.
جدير هنا أن نشير كيف أن المعلن، وهو لاعب أساسي في حركة الإعلام عموماً، أنه استطاع أن يلج إلى تلك العوالم الافتراضية التي كان تعقد الآمال عليها أن تكون أكثر حرية في النقد من غيرها، فإذا بها تكبل كما كبلت قنوات وصحف من نقد تلك المؤسسات. وعلى الرغم من طبيعية هذا الشيء بالإعلام، إلا أنه ملمح يجب الإشارة إليه في توصيف حال الإعلام البديل، إذ بات يُعاب عليه ما يُعاب على الوسائل التقليدية هذه النقطة، إلا أنه تفوق على التلفاز في طريقة حشر الإعلان بشكل فج وممجوج.
(3)
أتاحت التقنية المجال واسعاً أمام آحاد الناس لمخاطبة عموم الجمهور، وهي الفرصة التي كانت سابقاً حكراً على مجموعة بعينها. هذا الانفجار أبرز مجموعة مواهب وشخصيات مبدعة، وفي نفس الوقت ظهرت علل ثقافية واجتماعية عبر تلك الوسائل، كالطائفية والقبلية والعنصرية.. وغيرها. وهنا نشير إلى أن هذا العلل ليست وليدة تلك الوسائل، ولكنها موجودة ومنتشرة بين الناس؛ نظراً لغياب المعالجة الثقافية والإعلامية والتعليمية وسن الأنظمة للتصدي لهذه الظواهر المتفشية.
ولأن للشاشة سحراً مغرياً لعبور مجد الشهرة، نجد المقاطع تمطر يوتيوب وهي على نسق واحد وهو الجانب الكوميدي، والذي تجاوز مرحلة السخرية وذهب إلى امتهان الذات والآخرين.. ولولا أن هذا المنحى في تقديم هذه المقاطع يجد رواجه ويتم تناقله على نطاق واسع، لما عمد الواحد تلو الآخر في ولوج هذا الباب طمعاً بالشهرة. إن تصدر هؤلاء للمشهد العام في مخاطبة شرائح المجتمع وتوجيه الرأي والسلوك، والذي جاء عن طريق تقديم نموذج قوامه الإساءة للآدمية عبر افتعال مواقف تهين وتحط من قدر الإنسان إضافة إلى تزيين التهور والتلذذ بالضرر، يفيد بأننا نعيد سيناريو ما كان ينتقد فيه التلفاز من حرصه على أن يتصدر المشهد شخوص خاوية من الموهبة والفائدة.
قد يفهم مما سلف في الفقرتين السابقتين أن القول الرائج بضرورة أن يتصدر المشهد الوعاظ أو المثقفين، وذلك كي يكون المحتوى الجاد هو المسيطر في الفضاء العام. وهذا غير صحيح. ولكن القصد أن تشكل حالة تمييز بين حس الفكاهة والمرح وبين انتشار التفاهة وتسويقها لتزييف الوعي العام، وأن يتم حث المواهب المبدعة في الإعلام البديل على تجاوز النقود التي توجه إلى التلفاز من التكرار في الطرح، وتقديم مادة سطحية تقوم على التهريج والهمز واللمز بهيئات الناس. مع التأكيد بأهمية السعي لرفع سقف الحرية بدلاً من مغازلة أسطوانات قديمة في التزلف وبالمقابل التركيز على جوانب مستهلكة.
- عبدالله الدحيلان