د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الحزن قد يحل لفقد حبيب، أو ظلم رقيب، أو جنوح لبيب، وقد يحل الكدر الأمر غير معلوم، وسبب غير مفهوم، وقد يكون موقناً أو دائماً أو بين هذا وذاك، ولله في خلقه شؤون.
في الوقت الذي بدأت أسطر فيه قلمي وأقلب صفحات كتبي، إذا برسالة تخبر الجميع أن ابن أخي محمد بن حسن قد توفي، في ذات الوقت التي كانت عيني تنظر في سطور من إنشاء الكاتب صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان يقول فيها: فذكرت الله كثيراً، واستغفرته إجلالاً وتكبيراً، وحمدته على السراء والضراء، ونقشت من ما أورده شيخ المؤرخين الأندلسيين ابن حبان في كتابه المشهور المقتبس، ومنه: «الحمد لله الواحد الذي لا يكاثر، والقادر الذي لا يقادر، مقدر الأقدار، ومصرف الإعصار ومكور الليل على النهار، المتعالي عن العيان، والممكن بكل مكان، الموصوف بما علمنا من صفاته، المعروف بما أرانا من آياته، المعين على طاعته بقدرته، الميسر للمرجيات لموجبات جنته برحمته، والزمه الدليل على الافتقار إليه، بل أبقاه على شك من كرّة لحظ أورده نفسه، وأرسلهم بين أمد ممدود، وأجل محدود، حتى إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فتبارك الله أحسن الخالقين، والحمد لله رب العالمين....الى آخر ما قال.
هكذا نسج ذلك الكاتب هذا السبك البديع وسطره وحفظه له هذا المؤرخ الرفيع، فرحم الله أموات المسلمين، وأدخلهم جنات النعيم.
أخذت بي الذاكرة بعيد، وسارت عن كل غابر وجديد، فلم أجد سوى أيام كأنها الأحلام، تمر مر السحاب، فتمطر بماء زلال لمن وفقه الله في خدمة البشرية، أو تتقشع دون أن تروي ظامئاً، أو تشبع جائعاً، يرسمها المرء في خياله، ويكررها في ليله ونهاره، وبعد برهة من الزمن ينسى ذلك كله ليعود أدراجه، ويعيش كما رضي أن يعيش، ولله في خلقه شؤون.
الناس في هذه الدنيا تتسابق، وقد تتباعد أو تترافق، وقد تبني لذاتها، وتختلف لمن بعدها، لكنها في نهاية الأمر ذات أمد محدود مرسوم، ووقت معلوم لا تحيد عنه ولا تزيد، وكلما نذكر ذلك الحزن الذي قد مر بنا لسبب لا يستحق وكسر قابل للإصلاح، نعجب من النفس البشرية، كيف تتأثر، وربما تؤثر، وكيف لها أن تصنع منك إنساناً مكتئباً، لا يرى الدنيا بمنظار الأسى، والناس كأنهم له أعداء، فيلوم عند الصغيرة وتكبر في عينه، وتزداد، وتتراكم فتخلق المتاعب، وتجلب له المصائب وهو القادر على إزالتها بأيسر السبل وأسهلها، وذلك بالتجاوز والتسامح، والنظر إليها بعدم الاكتراث.
النفس هي النفس تصنعها كيفما تشاء وتسيرها كما تريد، لكن ذلك يحتاج صراعاً مريراً، وجهداً كبيراً، وبعد ذلك يصنع ذلك الأمر من ديدنها، فلا تراه إلاّ سلوكاً بالطبيعة، وإن كان من التطبيع، فيالها من أنفس تتباين مفاهيمها وفي مراميها وميادينها، وكلاً في سباق مع الأيام التي تطويه، كما هو طي السجل للكتب.
زرعك في هذه الدنيا ليس شرطاً أن يكون علماً أو مالاً، لكن قد يكون بطيبة القلب، والفرح بخدمة الغير، والحرص على إسعادهم وقضاء حوائجهم قدر المستطاع، والأجمل في ذلك أن تكون سعيداً بإسعاد غيرك، وهذه نعمة قد لا يقدر عليها الاّ القليل، وجعلنا الله وأياكم وموتانا وموتاكم منهم.
جمال النفس ليس بالضرورة أن يكون في تصرفات ننسجم مع ما يحب الناس، وما يسايرهم، وإنما هو نبتة تنبت فيها، وترمي ثمارها على من حولها من الأنفس حتى بالشيء اليسير، من الفعل، فلكلً طاقته، لكن أعظم جمال تراه في النفس أن تعطيك كل ما فيها من حب، وأن تأمر الجسد بإسعاد الناس لكي تسعد، بجمالها الباطن وليس بالضرورة أن يكون ظاهره، واللبيب هو ذلك الذي يكشف منابع الجمال في النفس، ويقطف ثمارها اليانعة، أو أن يقرب منها لترمي عليه بتلك الثمار.
رحم الله من أحببناه، ورحم أصحاب القلوب الطاهرة، والنفوس الزكية، وأسكنها جنة الفردوس ورحم الله جميع أموات المسلمين، ورزقهم في من خلقهم براً دائماً، وفتح لنا ولهم خير الدنيا والآخرة، والله ذو الفضل العظيم.