زكية إبراهيم الحجي
بائسٌ جافاه الزمان وتقلبت به الأيام.. لكنه كان مبدعاً وله باع طويل في العطاء.. أثمرت حقول عطائه بما يكفي لإشباع نهم المتعطشين إلى نور الحقيقة والمعرفة والعلم.. له عينُ الضد في رؤية الجمال فيرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً.. أشرق علم الجمال العربي بهالات بصماته فخرج بموازنة فريدة بين اتجاهين من خلال تحديد معايير تفسر جمال الجميل وقبح القبيح.. وأن تذوق الجمال نسبيٌ ومتغير وكلٌ له ذائقة خاصة في رؤية الجمال.. وصفه «ياقوت الحموي» في معجم الأدباء بقوله {كان متفنناً في جميع العلوم هو فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة لا نظير له ذكاء وفطنة.. فصاحة ودراية.. إلخ} ورغم ما كان يتمتع به من ثراء فكري وفلسفي ورغم أن كتبه كانت معيناً خصباً للمتعطشين لفكره وأدبه وفلسفته إلا أن الأمان نبذه، ففي لحظة يأس وضياع نفسي أقدم على حرق معظم كتبه ومؤلفاته ولم يسلم من الحرق سوى النذر اليسير الذي ما زال بين أيدينا اليوم.. فمن هو فيلسوف الأدباء الذي أحرق كتبه.
أبو حيان التوحيدي.. فيلسوف متصوف وأديب بارع من أعلام القرن الرابع الهجري.. كانت ولادته في بغداد وفيها عاش معظم سنين حياته لكنها كانت حياة مليئة بالمعاناة الصامتة والإخفاقات المتتالية.. نشأ يتيماً يعاني شظف العيش ومرارة الحرمان بعد رحيل أبيه ثم انتقاله إلى كنف عمه فذاق ويلات القسوة من عمه لشدة كرهه له.. وحين شبَّ عن الطوق امتهن حرفة الوراقة ورغم أن هذه الحرفة أتاحت له التزود بكمٍ هائل من المعرفة جعل منه مثقفاً موسوعياً إلا أن هذه المهنة لم ترضِ طموحه كما لم تلبِ حاجاته فما كان منه إلا أن يتجه إلى وجهة أخرى لعله يحقق ما يطمح إليه فاتصل بكبار مفكري وفلاسفة عصره غير أنه كان يعود خائب الآمال ناقماً على عصره ومجتمعه.
لعل من يغوص في أعماق حياة «التوحيدي» يتلمس حقيقة ما كان يعانيه ولا أبالغ إن قلت بأنه عاش أشد أنواع الغربة على النفس الإنسانية إنها الغربة الاجتماعية التي عانى منها نتيجة الفقر والوحدة والمعاملة التي لا تليق بمكانته كفيلسوف ومفكر وأديب وتجاهل أدباء عصره ومؤرخيه له.. صراعات شتى اجتاحت التوحيدي قبل إقدامه على حرق كتبه وزمن طويل قضاه في تفكير عميق حتى انتهى إلى فعلته تلك حتى أنه دون في أحد رسائله قائلاً {العلم يُراد به العمل.. وأنا أعوذ بالله من علمٍ عاد كلاًّّ.. وأرثٍ ذُلاً.. وصار في رقبة صاحبه غِلاً}
ولعل من المفارقات العجيبة أن يكون «التوحيدي» ضمن أعظم مؤرخي الفلسفة في عصره وكان يطلق عليه فيلسوف الأدباء لما يتمتع به من روح فلسفية تحلق في سماء التساؤل بصيغة بلاغية باهرة اللفظ إلا أن ذلك لم يشفع لأن يُعتد به كفيلسوف عند كثير من القادحين حيث رموه بالضلال والزندقة واختلاق الأخبار وهذا من أحد أسباب نقمته على مجتمعه إلى جانب ظروف حياة بائسة توالت عليه وعانى منها كثيراً انتهت بهذا العبقري إلى اليأس فأحرق كتبه بعد أن تجاوز التسعين من عمره.
التوحيدي فيلسوف عبقري ظلمه عصره.. إلا أن هذا الظلم والبؤس والشقاء أثمر حقولاً من العطاء المعرفي والفلسفي والأدبي ورغم حرقه لمعظم ما جادت بها قريحته فإن ما بقي منها وعلى وجه الخصوص كتاب «الإمتاع والمؤانسة» بلياليه الفريدة يُعد من أجمل مجالس السمار.