علي الصراف
يدرك الجميع اليوم كم أن البرنامج الأوروبي للحد من الهجرة كان مضيعة حقيقية للمال. المليارات أنفقت للحؤول دون تدفق المزيد من المهاجرين، ولكن ظل المهاجرون يتدفقون.
عمليات «الإنقاذ» البحرية، على أهميتها الإنسانية، باتت بالأحرى عمليات «نقل». والمهربون يعرفون جيدا ما يفعلون: يحشرون المئات في قارب متداعٍ، ويطلقونهم في البحر، لتكمل عمليات «الإنقاذ» الأوروبية بقية الرحلة.
مع ذلك، فإن هذا الفصل هو الجانب الأفضل من القصة، ليأتي بعده الإهمال في مخيمات هزيلة التجهيز، والمجادلات بين السياسيين، والمخاوف الأمنية، والضجيج الإعلامي الذي لا حدود له.
وبطبيعة الحال، فإن المهاجرين الساعين إلى الأمن والاستقرار سرعان ما يصبحون ضحية لكل هذا.
باختصار، تنطوي المعالجات الراهنة لـ «أزمة الهجرة» على مقدار هائل من سوء الفهم وسوء التدابير.
سوء الفهم لا يلاحظ أن موجات الهجرة عبر التاريخ كانت ثاني أكبر «قوة طبيعية» بعد تحرك القارات.
البشر يتنقلون، وتنقلهم ضروري ومفيد حتى للذين لا يتحركون من مواطنهم.
يقول تقرير منظمة الهجرة الدولية لعام 2015، على سبيل المثال، إن عدد المهاجرين الذين تستقبلهم المنطقة العربية حتى العام 2013 بلغ أكثر من 30 مليون مهاجر بينما هاجر منها أكثر من 21 مليون إنسان.
المعضلة الرئيسة الراهنة إنما تكمن في سرعة التنقل.
وبطبيعة الحال، فقد كان يتعين على المخططين أن يفهموا أنهم لا يستطيعون العيش بسرعة السيارة والطائرة، بينما تظل حركة الهجرة بسرعة السلحفاة. هذا مستحيل من الأساس.
وبما أن حركة الهجرة، شيء طبيعي على مر التاريخ، فكل ما يمكن عمله هو تسريع الآليات نفسها التي عرفتها عمليات الاندماج على مر الوقت.
لنبدأ من السؤال البسيط: ماذا يريد أولئك المهاجرون؟
إنهم يريدون الأمن والعيش الكريم. هذا كل ما في الأمر. أضيف فقط: إنه لا وقت لديهم لانتظار تقدم الحلول الاقتصادية والأمنية في بلدانهم. وبالتالي فلا نفع مباشرا من كل تلك المشاريع التي تقصد تطوير ظروف عيش المواطنين وهم في بلدانهم. هذا ينفع كخطوة تالية. أما الأولى فتتعلق بما يمكن أن تفعله بلدان الاستقبال نفسها. وعندما يتعلق الأمر بملايين البشر، فانه يتطلب تحركا سريعا وناضجا.
يجب أن يشيد المرء بشجاعة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي استقبل بلدها في غضون عام واحد نحو مليون ونصف المليون إنسان دفعة واحدة، وظلت تقول: «يمكننا أن ننجز المهمة».
شيء عميق من الحكمة يقف خلف هذا القول. فلقد أمكن لألمانيا، عقب الحرب العالمية الثانية، أن تستقبل ملايين العمال المهاجرين (جلهم كانوا من الأتراك)، ليساهموا في بناء نهضتها الاقتصادية الحديثة وعمرانها الرائع وبنيتها التحتية المتينة، بينما البنية التحتية في بلد مثل بريطانيا تبدو متداعية إلى حد بعيد.
«احصل على الأمن والعيش الكريم، ولكن اعمل». تلك هي المعادلة بأبسط صورها. وتعبيد الطرق ومد سكك الحديد وبناء المدارس والمنشآت العامة والمزارع، هو أفضل استثمار لقوة العمل الهائلة التي يمكن للمهاجرين أن يوفروها لبلد الاستقبال ولأنفسهم. وبدلا من معسكرات الإهمال، فان معسكرات العمل هي ما يجب أن يكون البديل.
55% من المهاجرين تتراوح أعمارهم بين 20 إلى 44 عاما. وهذا يعني طاقة عمل تتراوح بين 45 و21 عاما، إذا افترضنا أن سن التقاعد هو 65 عاما.
هذا هو «قارب الإنقاذ» الصحيح. وإجراءات عاجلة للفرز والتصنيف وحسن التوظيف، يمكنها أن توفر الكثير من الجهد والمال. ولكن يمكنها أيضا أن تجعل عمليات الدمج أسهل وأكثر نفعا.
إنه قارب إنقاذ ليس للمهاجرين وحدهم، بل للاقتصاد والتراجع السكاني وصناديق التقاعد أيضا.
هل يضر هذا الإجراء بقوة العمل المحلية؟
ما لم تكن عنصريا أو يمينيا متطرفا أو فاشيا جديدا أو عديم البصيرة، فالجواب: لا.
أقرب تجارب الاقتصاد تقول إن التكنولوجيا تبدو وكأنها تضر بالعمل التقليدي، ولكن سرعان ما تكتشف أنها تمتص المزيد من الأيدي العاملة، وتجعلها أكثر تقدما في الوقت نفسه.