د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لن أتحدث عن هذا الرجل من الجوانب العلمية أو الوطنية، فذلك يحتاج دراسات وبحوث للنهوض بشيء منه، ثم إني أدرك أنَّ كثيرا من محبيه والقريبين منه ممن عمل معه سيتحدثون عن ذلك، بل سأتحدث هنا عن معرفتي بهذه القامة العلمية وتجربتي الخاصة في العمل معه.
فحين رُشِّحتُ للعمل منسقاً علمياً لكرسي الشيخ عبدالعزيز التويجري للدراسات الإنسانية بجامعة الإمام في أوائل محرم من عام 1433هـ فوجئتُ وأنا أُحضِّر للاجتماع الأول أنَّ من بين أعضاء الهيئة الاستشارية للكرسي الأستاذ الدكتور عبدالله بن إبراهيم العسكر رحمه الله، كان اسمه لامعاً في ذهني دائما، كنتُ أعرفه من خلال مقالاته الرصينة في صحيفة الرياض، ومن خلال عضويته لمجلس الشورى، ومن خلال بعض مؤلفاته وترجماته التي لا تخفى على أدنى مثقف.
كنتُ في أشدِّ حالات والفرح والشوق؛ كوني سألتقي بقامةٍ وطنيةٍ وعلميةٍ بحجم الدكتور عبدالله العسكر، كنتُ بمجرد النظر إلى اسمه وصورته أشعر بالهيبة، لم أكن أتوقع يوماً أن تتيح لي الظروف اللقاء بشخصيةٍ عُرفتْ بعمقها المعرفي وإبداعها في تخصصها الدقيق ومؤلفاتها المتميزة، كنتُ واثقاً حينها أنَّ اختياره لعضوية هذا الكرسي في غاية التوفيق ومنتهى الإصابة؛ كون الكرسي متخصصاً في الدراسات الإنسانية، ولا شك أنَّ الدراسات والبحوث التاريخية تأتي على قائمة هذا النوع من الدراسات، والدكتور عبدالله معروفٌ بإبداعه وتميزه في هذا العلم، حتى أصبح علماً فيه، ولا يكاد يُذكر التاريخ إلا اقترن اسمه بهذا التخصص، ولا يمكن لأحد أن يغفل اسمه في أي ندوة أو مؤتمر يتصل بالجوانب التاريخية، ليس على مستوى المملكة فحسب، بل على مستوى العالم العربي، بل والدولي أيضا.
وحين جاء موعد الاجتماع الأول قابلته، فرأيتُ فيه الهيبة والوقار، وأبصرتُ -دون مبالغة- في عينيه الدقَّة العلمية والخبرة العميقة، وقد تأكَّد لي ذلك حين قدَّم لنا -منذ الاجتماع الأول- خطة إستراتيجية مقترحة، مكتملة الجوانب، لعمل الكرسي مع أنه لم يُكلَّف بذلك، غير أنه كان جادَّاً في عمله، ومبادراً على الدوام، وقد تضمَّنتْ خطته مجموعةً من الأفكار والمقترحات التي ترسم لعمل الكرسي كثيراً من المسارات التي أثْرَتْ برامجه ونوَّعتْ في نشاطاته فيما بعد، إضافةً إلى علاقاته الوثيقة والواسعة بكثيرٍ من العلماء والمتخصصين من داخل المملكة وخارجها، مما سهَّل علينا كثيراً من أمور التنسيق وإقامة المحاضرات والندوات، واستقطاب الأساتذة الزائرين.
وإذا لم يكن ما مرَّ مفاجئاً لِمَنْ اطلع على كتبه ومقالاته فإنَّ ما أدهشني ذلك التواضع الذي كان يشعُّ مِن شخصيته، ويدركه كلُّ مَن تعامل معه عن قرب، إذ كان بعد كلِّ اجتماعٍ يتوجَّه إلي، ويثني على تخصصي، مظهراً حبه للغة العربية، كما كان يشجعني على الاستمرار في كتابة المقالات، مؤكداً أنه يتابعها على الدوام، بل كان يعلق على بعضها وينقد أخرى، ولك أن تتخيل مبتدئاً مثلي يُقال له هذا الكلام من شخصيةٍ بحجمه رحمه الله، إضافةً إلى حرصه على التوجيه العلمي وتقديم النصح والإرشاد، لقد كان كالأب الحاني العطوف الذي يسرُّه أن يرى أبناءه متفوقين ومميزين.
ومن صور حرصه على العمل وجدِّيته أنه كان يتصل بي مراراً لمناقشة بعض الأمور الخاصة ببرامج الكرسي، ويتأكَّد من وصول الرسائل إلى هاتفي وبريدي الإلكتروني، ويذكرني بأمورٍ يُفترض أن أكون أحرص منه عليها، ثم إنه خلال السنوات الأربع التي عملتُ فيها معه لم يتغيَّب يوماً واحداً عن اجتماعٍ مهما كانت الظروف، بل إنه كان يتوسَّل أن يتأجَّل الاجتماع إذا كانت ظروفه قاهرةً تمنعه من الحضور، وكنتُ أبلغ الأعضاء بالتأجيل، موهماً إياهم أنَّ المعتذر أكثر من عضو؛ لكوني أثق أنَّ الاجتماع بحضوره سيكون له طعمٌ آخر.
ولأني كنت مسؤولاً عن الجوانب المالية في الكرسي فلا أذكر يوماً أنه طالب بريالٍ واحد، رغم أنه يقوم بأعمالٍ تستحق آلاف الريالات، لقد كان الرجل محباً لعمله، ومحباً للكرسي الذي كان يحمل اسم رجلٍ أحبه، وهو الشيخ عبدالعزيز التويجري رحمه الله، إذ كان ينبِّه دائما على ضرورة أن يكون للشيخ نصيبٌ من عمل الكرسي، وأن يكون لتوثيق أعماله ودراسة نتاجه مسارٌ خاص، لأنه كان يدرك أنَّ هذه الشخصية الوطنية لم تنل حقها من العناية والاهتمام.
لقد كان مع جدِّيته وحزمه هاشَّاً باشا، مبتسماً حين يختلف أحدٌ معه في الرأي، كان يملك نفسه حين يشتدُّ الحوار، يحاول قدر الإمكان أن يخفي علامات الغضب، حريصاً على بيان فكرته وتوضيحها والإقناع بها، كان طيب القلب، نقي السريرة، طاهر الأردان، لطيف المعشر، جميل الروح، نختلف معه في بعض الاجتماعات، لكننا نتفق جميعاً على حبه واحترامه وتقديره وإجلاله، كان في غاية الكرم والجود، كان في كلِّ اجتماع غالباً يهدي الأعضاء أحدث إصداراته الرصينة، ويؤكد علينا -دون مجاملة- أنه يسعد بأي اقتراح أو ملاحظة حولها.
وحين هنأته بعيد الفطر لهذا العام برسالةٍ ردَّ علي بكلماتٍ لم أستغربها، لأني عرفته محباً متواضعا، قال لي: «هلا وغلا بالأخ الدكتور عمر، أهنئك بحلول عيد الفطر، أعاده الله عليك بالقبول والعفو والعافية وسنين من الصيام والعيد عديدة، افتقدناك.. يا ليت ترجع للكرسي علشان نشوفك على الأقل.. محبك د. عبدالله العسكر»، كانت أجمل الحروف التي وصلتني في تلك الأيام، رددتُ عليه بقولي: «شكرا دكتورنا العزيز على طيب مشاعرك التي أفتخر بها والله.. شوقي إليكم أكثر.. ولعلنا نلتقي قريبا بإذن الله»، وكنت أظنُّ أنَّ المحادثة انتهتْ هنا، لكنه فاجأني بقوله: إن شاء الله، وأتشرف باستقبالك في المنزل أيام العيد»، فرحتُ بذلك كثيرا، وكنت أنوي لقاءه بعد انقطاعٍ دام قرابة أكثر من عام، غير أنَّ القدر كان أسبق، فرحمك الله يا أبا نايف، وجزاك الله خيراً على كلِّ ما قدَّمته إلى هذا الوطن، وأجزل لك المثوبة، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة، وأحسن الله عزاء الوطن والعرب جميعا في غياب هذه القامة العلمية السامقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.