أ.د. حمد بن ناصر الدخيِّل
استفدت هذا العنوان من كتاب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان (1286- 1366هـ = 1869 - 1946م): (شوقي وصداقة أربعين عاماً)، وأرى أنه العنوان المناسب للحديث عن صداقتي الوفية المخلصة مع الدكتور الغالي عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله العسكر الذي اختاره الله تعالى إلى جواره يوم الخميس 23-10-1437هـ الموافق 28-07-2016م، بعد أن أمضى في هذه الدنيا الفانية نحو سبعين عاماً هجرياً، مفعمة بالإنجاز على مستوى الوطن والأمة والتاريخ والثقافة. لم أكن أتصور أن يرحل عنا أبو نايف بهذه الفاجعة المؤلمة المحزنة السريعة التي أدمت القلب، وأمضت النفس، وأوجعت مواطن الشعور والإحساس. تلقيت الخبر في المدينة التي أبصر فيها الدنيا أول مرة (المجمعة) بعد صلاة الجمعة 14-10-1437هـ = 29-07-2016م، وكنت قرأت يوم الأربعاء آخر مقالة كتبها ونشرها في صحيفة الرياض، عنوانها (تيران وصنافير مرة أخرى)، كان آخر عهده بالدنيا زيارة مكتبة، فلا زال متعلقاً بالكتاب حتى آخر لحظة من حياته المباركة. عرفته أول مرة تلميذاً صغير السن في المتوسطة الأولى في المجمعة، الواقعة على الطريق الذي سمي فيما بعد بطريق الملك فيصل، وكان قد درس المرحلة الابتدائية في المدرسة العزيزية التي كانت في الناحية الشرقية للمجمعة، وهي قريبة من منزل والده ومنازل معظم أسر العسكر الواقعة في حي الحوش، وربما عد أقدم حي في المجمعة. حينما رأيته أول مرة كان فتى أبيض اللون مشرباً بصفرة، مشرق الوجه، تغلب عليه النحافة، وتظهر على محياه سمات الأدب والخلق والبراءة، كنا في تلك الساعة نخرج من بوابة المدرسة الخارجية بعد أن حضرنا حفلاً في المدرسة أو ما يشبه الحفل. كنت آنذاك طالباً في معهد المجمعة العلمي، ومنتسباً إلى المدرسة المتوسطة التي يدرس فيها منتظماً التلميذ عبد الله العسكر، وأمضيت منتسباً ثلاث سنوات حصلت بعدها على شهادة الكفاءة، وأمارس نشاطاً ثقافياً في المعهد وفي نادي الشباب في المجمعة.
في عام 1384هـ - 1964م، كان يدرس في المدرسة الثانوية الأولى في المجمعة، وأقام نادي الشباب في المجمعة حفلاً ثقافياً كان من ضمن مواده مسرحية، وبعد الانتهاء من فقرات الحفل رغب الطالب عبد الله العسكر أن يتحدث عن رأيه وانطباعه عما رآه وسمعه، فكان حديثه نقداً جريئاً لا يخلو من نقد عنيف دفعته إليه فورة الشباب، فأعقبت نقده بتوضيح وعتاب، وكذلك فعل صديق العمر الأستاذ إبراهيم بن أحمد العمر، وكنا قائمين على الحفل. كان من ضمن الحضور الأستاذ الكاتب الأديب عبد العزيز بن عبد الله الربيعي مدير الوحدة الزراعية في المجمعة، وكان يكتب في الجزيرة، ثم في مجلة العرب بعد صدورها عام 1386هـ، ومجلة الأديب البيروتية المحتجبة بعد وفاة منشئها وصاحبها ألبير أديب، فعقب على التعقيبات، وانتقد تعقيب شخصين على مداخلة واحدة مهما كانت عنيفة. أعجبني في الفتى عبد الله العسكر شجاعته وجرأته وصراحته وقدرته على الارتجال، ومواجهة الجمهور، وهو في تلك السن التي نرى معظم الطلاب يحاولون التخلص من المشاركة في الإنشاء الشفوي أو الخطابة الارتجالية.
كان عبد الله العسكر ذا شفافية رحب النفس، واسع الصدر نقي الضمير، أريحي، لم يغز قلبه حقد ولا ضغينة، اتصلت أسبابي بأسبابه منذ تلك الليلة، ولمستُ منه شاباً طلعة ذا شخصية، يطرق أبواب الثقافة والمعرفة، لم تغره مكافأة المعهد العلمي، واختار الدراسة في الثانوية العامة، لأن مجالات العلم والتخصص بعدها كثيرة، وهي طريق لإتقان أكثر من لغة أجنبية، فكانت الفرنسية تدرس فيها إلى جانب الإنجليزية آنذاك، وامتدت صداقتي معه إلى أن لقي وجه ربه. كان كل منا معجباً بالآخر في إدمان القراءة، وطرق أبواب الثقافة والمعرفة، كان يقرأ في الأدب الحديث، وأدباء مصر الكبار في طليعة اهتمامه، وكنت أرى ميوله الأدبية ظاهرة، ولم ألحظ في مرحلة دراسته الثانوية ما يوحي باهتمامه بالتاريخ، التخصص الذي اتجه إليه فيما بعد، وأخلص له، وأنتج فيه مؤلفات ومترجمات. دفعني إقباله على قراءة الأدب، ومناقشاته في قضاياه وشؤونه أن أهدي إليه كتاب: النقد الأدبي لأحمد أمين في طبعته المصرية، ويتكون من جزأين، الجزء الأول في النقد عند العرب، والجزء الآخر في النقد عند الإفرنج أو الغرب، وأعتقد أنه قرأه كما قرأته، ولعله لا يزال في مكتبته، وكان يذكرني به أحياناً.
كان كل منا يهوى المراسلة وكتابة الرسائل، وتبادلنا عشرات الرسائل، كان خطه الرقعي جميلاً، لا تكلف فيه ولم تكن رسائلنا مجرد سلام وتحيات، بل نعرض فيها ألواناً من شؤون الأدب والثقافة. كنا نقرأ بنهم، ونشترك معاً في الإقبال على قراءة رموز الأدب في مصر ورواده، وفي اقتناء المجلات الثقافية الجادة كمجلة العربي على عهد رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي، وهو العصر الذهبي للمجلة، ومجلة الهلال. كان يلح علي بزيارته حينما ألم بالمجمعة، ويلح أيضاً أن أبيت في منزلهم، كنت أجد بشاشة وترحيباً من الجميع من والده وشقيقه فهد الطالب في المعهد العلمي، أما شقيقه حمد فكان صغير السن. كانت رغبته الأولى أن يتخصص في الإعلام، وموهبته الخطابية والقدرة على الإلقاء ومخاطبة الجمهور تسعفه في ذلك، وبعد أن التحق بكلية التربية بجامعة الرياض (جامعة الملك سعود) آثر التاريخ، لأن مجاله خصب متنوع، وهو تخصص يمتد عبر آلاف السنين، في بيئات وأزمان عديدة مختلفة، ولعله لم يفكر طويلاً في اختيار الحقبة التاريخية والبيئة اللتين ستكونان محور اهتمامه ومجالاً لبحوثه المستقبلة، فآثر أن يكون تخصصه في تاريخ الجزيرة العربية، ورأى في البداية أن يكوِّن قاعدة معلومات تاريخية تكون متكئاً ومنطلقاً لدراساته، فكتب بحثه الجامعي (الحالة الاقتصادية عند عرب الجنوب في العصر القديم) عام 1391هـ، وأشرف عليه أستاذه في كلية التربية الدكتور حسن سليمان محمود، أستاذ مادة تاريخ العرب قبل الإسلام، ونشرته كلية التربية على نفقتها في العام الجامعي 1391 ـ 1392هـ = 1971 ـ 1972م، وطبع في مطابع المعهد الملكي الفني بالرياض، ويقع في 56 صفحة، صدّره بكلمة الإهداء: «إلى كل مواطن عربي بناء، قدم ويقدم في سجل الزمن مجداً عربيّاً. إلى كل المهتمين بدراسة تاريخ أمتنا العربية دراسة علمية أمينة. إلى من غرس فينا حب البحث والدرس أستاذنا الدكتور حسن سليمان محمود، أقدم باكورة إنتاجي، ونقطة البداية في حياتي العلمية. والله ولي التوفيق». وتتوافر في البحث مقاييس البحث الأكاديمي من حيث بناء الخطة والتوثيق، والصياغة. كرم وأهدى إلي نسخة بعبارة الإهداء: «إليك رمز الحب والود» مؤرخة بتاريخ الرياض في 4-4-1392هـ. كان من أميز الطلاب الذين تخرجوا في قسم التاريخ، فبعثته الجامعة لدراسته في جامعة لوس أنجليس بولاية كلفورنيا بالولايات المتحدة، وكانت لغته الإنجليزية قبل ابتعاثه جيدة، فقد كان مهتاً بدراستها منذ مرحلة التعليم العام، ولعله لم يجد صعوبة في الإلمام بها لغة بحث ودرس وكتابة وفي غيرها من اللغات التي تشترط الجامعة أن يدرسها الطالب مثل الفرنسية والفارسية. كنت أتواصل معه أحياناً بالهاتف وهو في دار غربته، وأسعد بمحادثته وسماع صوته. وفي إحدى قدماته من موطن دراسته، رغب في لقاء العلامة الأستاذ حمد الجاسر؛ ليستفيد من علمه وتوجيهه فيما يتصل بتاريخ اليمامة في عصر صدر الإسلام، والجاسر أعلم من يُسأل عن هذا الموضوع، فذهبنا سويّاً إليه في دارته بحي الملز، وكان لقاء وكانت أسئلة وأجوبة. كانت عينه على الوطن وتاريخه وتراثه وأمجاده، فبدأ يؤسس لدراساته القادمة بدراسة تاريخه القديم، واختار اليمامة؛ لأنها كانت تمثل سُرّة نجد، مهد العربية والشعر، وقدم أطروحته للدكتوراه عن تاريخها في القرن السادس والسابع بعد الميلاد. ومن أبحاثه الجريئة المبكرة بحث: (ذو القرنين بين الخبر القرآني والواقع التاريخي) الذي نشره في حلقتين في مجلة الدارة، وهو بحث شائك لم يقل فيه المفسرون والمؤرخون كلمتهم الأخيرة، وأذكر أن زميلنا الأستاذ أحمد حسين شرف الدين كتب ردّاً على البحث. وفي مستهل حياته البحثية المبكرة بعد حصوله على الدكتوراه نشر كتابه (تحقيب التاريخ الإسلامي)، صدرت طبعته الأولى عام 1419هـ، ويهدف البحث إلى تسهيل دراسة التاريخ الإسلامي بتقسيمه إلى مدد أو حقب حسب العصور أو الدول أو الإقليم أو الأحداث البارزة، وأعده بحثاً جديداً في تنظير التاريخ وفلسفته كتب باللغة العربية. قدم لي نسخة، وكتب بخطه: «مع خالص الود والتقدير لصديق العمر فضيلة الدكتور حمد الدخيّل».
ويكشف البحث - على الرغم من قصره (107ص) - عن قدرة على استحضار مصادر البحث ومراجعه باللغتين العربية والإنجليزية، واستعان بمصدر واحد باللغة الفرنسية.
بمناسبة الاحتفال بمئوية المملكة كلفتني مكتبة الملك عبد العزيز العامة برئاسة لجنة اختيار الكتب العربية لنشرها في المناسبة، كان من أعضائها الدكتور عبد الله العسكر، والدكتور الفاضل عويضة بن متيريك الجهني، وكان الفقيد مفيداً في معلوماته، حيوياً في طرحه.
وأذكر أنني كتبت مقدمة للتقرير فأشاد بها وأثنى عليها كثيراً، وقال: إنها جديرة بالنشر، وتكتب بماء الذهب. كانت له صلات كثيرة بالمؤرخين والأدباء والمثقفين، ومن هؤلاء الدكتور نوري حمودي القيسي (ت 1415هـ) أحد أعلام محققي التراث في العراق. طلب منه الدكتور نوري كتاباً منشوراً في المملكة لا أتذكر عنوانه الآن، لعله مقدمة كتاب: تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين، ورغب إلى أن أبعث الكتاب إلى الدكتور نوري؛ لأنه كان على أهبة سفر خارج المملكة، فأرسلته إلى عنوانه في العراق. اتصل بي مرة، وقال: سأزورك في المنزل، وحددنا موعداً بعد العصر، فقدم وبرفقته الصديق الأستاذ الدكتور محمد خير البقاعي زميله في كلية آداب جامعة الملك سعود، وأهداني عدداً من كتبه من مؤلفة ومترجمة، وكذا فعل الأخ الدكتور البقاعي، واختار من مكتبتي ثلاثة كتب نشرتها عن شعر بني حنيفة، وكتاباً رابعاً لا أتذكر عنوانه لسلامة موسى، وربما أن اختياره لهذا الكتاب تضمنه نقداً لعباس محمود العقاد. ولم يكن الأديبان على وفاق طوال حياتهما.
من أهم ما تمتاز به دراساته في التاريخ التمكن من الاطلاع على المصادر والمراجع في الموضوع الذي يود أن يدرسه، والاستقصاء في جلب المعلومة وتوظيفها، والدقة في التوثيق واتباع المنهج الاستقرائي لتوصيل الفكرة، ثم هذه اللغة الواضحة التي اكتسبها من القراءة في كتب الأدب، رحمه الله وغفر له، وأسكنه فسيح جناته.