يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
أود أن أعرف بنفسي أولاً… أُدعى سارة البنت الكبرى لابنتك بدرية، مسمىً آخر لكلمة «السعاده»، وأبلغ من العمر 22 ربيعاً، سأتخرج بعد عامين من الجامعة. أقرأ الكتب في الأحيان التي لا أكون منغمسة في شيء ما وأصبحت تلك السجية لا تفارقني منذ الخامسة من عُمري.
أجِدُ نفسي مغرمةً بالأوراق والحبر؛ فإني أغرق في بِحار الحروف وجمال الكلمات التي تصدر ألحاناً جميلة في كل مرة أقرؤها.. فهي تَخَلّق عوالم جديدة وتفتح نوافذ لم أرها من قبل، أرى نفسي ملازمة للغةِ والحرف، فكل حرف في أي لغة كانت له صوت مختلف وزخرفة خاصة به، لذلك أصبحت مترجمة أرى للناس حقاً في فهم اللغات الأخرى، أنا أنقل الكلمات يا جدي من لغة إلى أخرى أُترجمها ليفهمها من لا يستطيع ذلك، فهل ستكون فخوراً بي؟
سمعتُ الكثير عنك يا جدّي… وإني أشتاق لرؤياك وعيني لم ترَك قَط. لم أرَ سوى الصور الجامدة ذات الطراز العتيق. لذلك كتبت هذه الرسالة التي يمكنني فيها أن أبُثَّ لك شوقي لمرئاك، وحماسي بأن أحدّثك وأعرّفك عن نفسي. فالقلم والورق يا جدّي يبنيان جسوراً غير مرئية لأشخاص لم نقابلهم قط. وقد حان الوقت الذي يجب فيه أن نحكي سوياً. اسمع ما أريد أن أحكي لك: أجِدُ فيني الكثير منك؛ فعندي على الدنيا عزمٌ كما كان لديك عزم، وإني أحبُّ أن أشغِل نفسي بدلاً من أن أعيش بلا جدوى، فكما يقول الغزالي: «والنَّفسُ إِن لَم تَشتَغِل بِشَيءٍ شَغَلَت صَاحِبُهَا». لذلك أنا أكتُب واقرأ فإني أذرف كلّ ما بي لئلا تشغلني نفسي. محبةٌ لإنجازاتك أنا، وأعترف بأني أتذكرك في الأحيان التي أغفل فيها عن مهامي. عجيبٌ أمر البشر يا جدّي… يُعجبون بأناسٍ لم يروهم قط، ولكنّهم يكتفون بحكاياتٍ تروي قصصهم.
في الرابع من العيد تكلم عنك خالي د. سالم القرزعي وكان كلماته تلك من محفزات رسالتي هذه.
قرأت الكثير من الكتب عن التحفيز والإنجاز، وقرأت العديد من الكتب عن قصص نجاح شخصياتٍ كثيرة، ولكنها لم تهُز بي شعرة. رُبَّما لأني لا أعرفهم، أو لأني لا أجد أي علاقة أو ارتباط بهم، ولكنني لم أكترث لقصصهم. كنت أنت الشخص الوحيد الذي أصبح دافعاً لي بالتقدّم والاستمرار. وأعاد لي حب الكتابة من جديد..
كنت أنت الدافع الذي يقودني إلى المثابرة في أيّ شيء. أصبحت قصصك هي المضاد الحيوي للكسل والتهاون الذي مررت به وكأنَّما حكاياك وقصصك لديها قوة جاذبية مغناطيسية تجذبني للكلمة والحرف أو لأنهي أي مهام آخر، وذلك قد زادني حباً وتعلقاً فيك. في هذه الليلة المُعتمة، وجدت نفسي أكتُب عنك. تلك هي المرة الأولى التي أكتُب فيها رسالة لشخص لم أرَهُ، ولن أراهُ في هذه الحياة الدنيا. لطالما كانت رسالاتي لأمي، أو لأبي، أو لإحدى صديقاتي عندما كُنتُ طفلة صغيرة. ولكن كأنّك أقسمت أن تُلازِمَ ذهني في هذه الليلة. أنت وأنا، والحبرُ والورقُ يجمَعُنا.
هنا عنيزة وأنا في بيتك يا جدي في الدور الثاني أصبح لنا غرفة فيها أحفادك يا جدي يأتون هل أعدهم؟ ما شاء الله كفيلة بنا فعددنا كبير والحمد لله..
رُغم أني لم أواجه مصاعب الحياة الحقيقية لصغر سني، ولكنني أدركت من أصغر الأشياء التي صادفتها في حياتي أننا عكس الحياة التي نعيشها. أمرٌ مضحك: على مرّ السنين، وبُعد الأراضي، أيقنتُ يا جدّي بأن الحياة تحولنا إلى طريقٍ لم نعرفه من قبل. وأن الحياة يا جدّي تسري كما تريد، ناسية ومتناسية بوجود قلوبنا التي لا تطيق الحزن والفراق.
وربما هي تسري بشكلٍ لم نرده؛ بشكلٍ كنا ننفر منه حتى، ولكنها تسري… مثلما نسري… تمضي مثلما نمضي… ولكنها تمضي بلا جروح، ونحن نمضي وننزف نزيفاً داخلياً… دعنا من ذلك كله، فإنه ليس من شأني اليوم. أنا وأنت في هذه الليلة يا جدّي. لا أحد يقاطعنا. إني قد بدأتُ أشتَمُّ رائحة تفوح في الأرجاء حولي، تحمل عبق ونسائم الماضي الذي لم أعشه أبداً. رائحة جديدة، رغم قِدَمِها. وأخبرك بأني أحببتها أكثر من عبق الحاضر.
جدّي بدأت أرى ملامحك وأنا أكتب هذه الرسالة؟ أراك وأنت تبستم إليَّ، وتضُمني إلى صدرك. إنها صورة أشبه بالسراب، ولكنها كانت قريبة للواقع كثيراً.
ها هي دموعي من جديد لكنها دموع فرح أراني في حضنك جميلة تلك الصورة.
لقد بدأ النوم يغالبني… فوداعاً جدّي… أراك في رسالةٍ أخرى.
رحمك الله رحمة واسعة وطيب الله ثراك، وجزاك الله عنا في الدنيا والآخرة أجزل الأجر والثواب.
- سارة الجبيلان