د. محمد عبدالله العوين
قلت في المقال السابق إن التعليم في جل مراحله يحتاج إلى إصلاح شامل، بحيث يكون اللبنة الأساسية في النهضة وتنشئة أجيال جديدة واعية منتمية منفتحة مؤمنة برسالتها الوطنية والأخلاقية؛ فلا يمكن أن نبني نهضة بأجيال هشة متبرمة ملولة لا تؤمن برسالة ولا أهداف وليس لها قضية إلا مطاردة الحصول على فرصة وظيفية ولو ضئيلة لدفع غائلة الجوع والتمسك بالحياة؛ كما هو حاصل الآن في قبول عشرات الآلاف من خريجي الجامعات بوظائف معلمين في «دكاكين التعليم» الخاصة بمرتبات ضئيلة لم تصل إلى الحد الذي فرضته وزارة التعليم كشرط من شروط منح الرخصة للمدارس الخاصة إلا بعد ضغوط هائلة من الوزارة ومراقبة مستمرة لتطبيق الشرط، والمرتب لا يكاد يتجاوز أربعة آلاف ريال.
نهضت اليابان؛ لأنها جعلت التعليم الجاد الذي يحقق الرسالة الوطنية في التهذيب والأخلاق والإنتاج والتفوق والابتكار والانضباط غايتها الرئيسة، وسخرت لتحقيق هذه الأهداف الميزانيات الضخمة، وابتدأ التعليم إلزامياً منذ عام 1872م مع ثورة إصلاح ميجي التي سعت إلى الانفتاح على الحضارة الغربية بموجات بعثات كبيرة إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وإلى اليوم واليابان تضع «التعليم» الشرط الأول لاستمرار النهضة الحضارية الشاملة، ونقيس على ذلك النهضة في مصر وماليزيا وكوريا، مما لا تتسع هذه الزاوية لتفاصيل تجارب تلك المجتمعات.
إن الخلل الجلي الذي يبعث على كثير من الأسى والألم لا يعود إلى الطالب وحده، ولا إلى المعلم وحده، ولا إلى الأسرة وحدها، ولا الإدارة وحدها؛ بل هو كل من جزء، لا يمكن بحال أن نسند أسباب ضعف مخرجات التعليم إلى سبب واحد فقط، بل هي عوامل عديدة أسهمت في صناعة هذا الناتج الضعيف بتقدير عام، وهذا لا يعني أننا لا نجد ما نفخر ونرفع رؤوسنا به؛ فجامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي تخرج العباقرة في التخصصات العلمية الهندسية مفخرة بحق، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا «كاوست» التي تخرج الباحثين في الدراسات العليا وسط بيئة علمية عالمية شديدة الانتقاء مفخرة، وآلاف الطلاب المميزين الذين يحققون أعلى الدرجات في جامعات الغرب والشرق، ومنهم مبتكرون ومخترعون، ومنهم مئات تستقطبهم جامعات ومستشفيات ومراكز البحث العلمي في دول العالم مفخرة كبرى لنا.
الخلل ليس في الطلاب؛ بل الخلل في البيئة التعليمية المتكاملة، وفي الأهداف والإستراتيجيات، وفي التحفيز والعقاب، وفي العطاء المادي المريح والمشجع للمعلم.
لا يمكن أن نخرج طالباً متميزاً وهو يساق سوقاً إلى تخصص لا يميل إليه ولم يختره، وإنما يراد من تحويل مئات الطلاب إلى هذا التخصص أو ذاك ملء الفراغات وسد النقص لاستمرار التخصص الذي لا يقبل عليه أحد؛ لأنه لا يوفر فرصة عيش كريمة للطالب بعد تخرجه. ولا يمكن أن نخرج أجيالاً منتجة مفيدة مقبلة بتفاؤل على العمل وخدمة الوطن ونحن نزج بهم في تخصصات لا قيمة لها في سوق العمل أو يعاني المجتمع من تخمة مزمنة بها، ومع ذلك لا يريد مخططو التعليم أن يغيروا أو يبدلوا شيئاً مما ورثوه في خطط التعليم قبل عشرات السنين. ولا يمكن أن نخرج طلاباً متميزين وهم يدوخون العشر دوخات وملفاتهم في أيديهم يبحثون عن فرصة عمل، أو ينتظرون سنوات دون أن يجدوا بارقة أمل للحصول على عمل، وحين تتاح لهم يجدون أنفسهم بين مطرقة تاجر الدكاكين التعليمية وشح المرتب وضغط النصاب.
ولا يمكن أن ننتج أجيالاً متعلمة تعليمياً حقيقياً والمعلم أو المعلمة يعطي أي منهما في غير تخصصه، ويحمل ما لا يطيق ويصل نصابه أو نصابها إلى أربع وعشرين حصة في الأسبوع، ويضاف لها الاحتياطي في كثير من الأحيان.
ولا يمكن أن نوفر بيئة تعليمية جيدة ومرضية والمعلم أو المعلمة أو الطالب يكره أي منهم على غير ما يرغب من تخصص أو يلحق بمدينة أخرى غير مدينته للدراسة أو الوظيفة، مع أنه لو تم التنسيق لوجد معلم أو معلمة أو طالب يرغبون في ما لم يرضه غيرهم. يتبع