محمد عبد الرزاق القشعمي
لأيام وأنا أحاول الكتابة عن رحيلك عنا إلى جنة الخلد برحمة الله ولم استطع كلما هممت بأخذ القلم لأكتب شيئًا عن لوعة الفراق تخونني قدراتي فأسقط القلم، صحيح أنني قد هجرت القراءة والكتابة منذ دخولك المستشفى ولثلاثة أشهر حرصت على زيارتك يوميًا وعلى الرغم من مرافقة شقيقتي سارة ونورة لك إلا أنني كلما رأيتك تتوجعين من الأورام الخبيثة التي انتشرت في جسمك ووصلت إلى ظهرك الذي أصبح يؤلمك لأنك لا تحبين النوم إلا عليه. كنت أتألم لألمك وأتجنب أن يظهر علي ذلك حتى لا يؤلمك أكثر.
وفي الأيام العشرة الأخيرة من حياتك وفقدانك للحيوية وترحيبك بمن يزورك، وحتى الصلاة الواجبة تعذر عليك أداؤها، فأصبحت الأدوية المخدرة والمسكنة لآلامك هي العلاج الوحيد الذي تكرر حقنه بأوردتك كل أربع ساعات، أو كلما تصحين لانتهاء مفعوله.
واليوم الأخير من حياتك لم أتمكن من تقبيل جبينك لوجود أختيّ متقابلتين عند رأسك وكل واحدة ممسكة بيد وتقرآن عليك، ولم أتمكن من الوصول فاكتفيت بالذهاب مستعجلاً حضور الطبيب الذي أوصى بشفط ما تجمع في الحلق من بلغم ليسهل التنفس. وبعد ساعات نعاك الناعي وحقت كلمة ربي، فالموت حق ولا راد لمشيئة الله. ولكن تقبيل جبينك الأخير تم بُعيد التغسيل والتكفين وقبيل الصلاة عليك ومواراتك الثرى - فرحمك الله رحمة واسعة.
وكأني بالمتنبي وهو يرثي جدته قائلاً:
فوا أسفًا إلا أُكِبَّ مقبلاً
لرأسك والصدر الذي مُلئا حزَما
وقول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعًا
إن الذي تحذرين قد وقعا
حاولت لأيام بعد فراقك الكتابة فتعذر على ذلك ولم استطع النوم فشريط الذكريات يمر أمامي ويذكرني بمواقف ومشاهد حصلت معك من أيام طفولتي وحتى شيخوختي، ومع أخذ القلم وشحذ الذاكرة تذكرت رثاء الشاعر محمد العلي لزوجته قبل سنوات تحت عنوان: (لا أحد في البيت). وقبل ذلك تعزية زكي مبارك لطه حسين عند وفاة والدته رغم الخلاف الشديد بينهما قائلاً:
(الحمد لله الذي أعزك بوفاتها ولم يذلها بوفاتك) فتوقف القلم في يدي رافضًا المزيد.
إلا أن ما حفزني لاستكمال ما قد يريح نفسي، وأقول شيئًا قد يخفف معاناتي بفقد الحبيب.
فعدت لبعض المراثي التي بث بها شعراء العربية لواعجهم في فقد عزيز لهم ومنها قول الجواهري في رثاء والدته:
في ذمة الله ما ألقى وما أجد
أهذه صخرةٌ أم هذه كَبِدُ
قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا
عنه فكيف بمن أحبابُهُ فُقِدوا
تحيّة لم أجد من بث لاعجها
بُدًّا، وإن قام سدًا بيننا اللّحد
وقول أبي العلا المعري في رثاء والدته:
وأكبر أن يرثيها لساني
بلفظ سالك طرق الطعام
مضت وقد اكتَهلت وخلت أنّي
رضيعُ ما بَلغت مَدى الفطِام
وقال:
مضت وكأني مُرضعٌ وقد ارتقت
بي السن حتى شَكَّل فودي إشكالُ
إذا نِمتُ لاقيت الأحبة بعدما
طوتهم شهور في التُّراب وأحوالُ
وأختم هذه الاستشهادات بقول أبي ذؤيب:
ولقد أرى أن البكاء سفاهةٌ
ولسوف يولع بالبكا من يُفجع
تذكرت طفولتي ورعايتك لي رغم بعد الوالد - حيث يطلب العلم والعمل بالرياض - والتحاقنا به، وعند بلوغي السابعة واصطحابه للمسجد ومحاولته تحفيظي قصار السور، وتأخرى في حفظ ما يحدد لي مما جعله يؤدبني بالنهر والضرب، وكنتِ تشفقين على ولا تجهرين بشعورك، وحثي على حفظ ما طلب مني حفظه ومحاولتك مساعدتي بما تحفظينه رغم جهلك القراءة. وكان الدور على سورة (لم يكن) وكنت تنطقينها بكسر الكاف. وكان والدي سبق أن لقننيها بالضم، فكنت أبكي أمامكِ وأرفض نطقها لأنها تخالف ما سمعته منه، وجاءت السورة الأخرى (قل يا أيها الكافرون) وتكرر آياتها المتشابهة التي لا بد توقعني بالعقوبة. وغير ذلك كثير.
تذكرت عودتنا لبلدتنا الزلفي حيث والدتك وأخوالي ومحاولتك البقاء بجوار والدتك لرعايتها وأن يكتفي الوالد بزوجته الأخرى مع أخوتي الصغار، وبقائي معك حتى بلغت العاشرة فطلبني الوالد لمرافقته حيث يصوم شهر رمضان في مكة، وبقائي معه بالرياض، وكنت أزورك بين فترة وأخرى وكنت تعوضينني من الحنان ما افتقدته فكنت نبع الحنان والعطف عندما يتعلق الأمر بالأمور الصحية والعلاقات الاجتماعية، أما ما يتعلق بالنواحي الدينية فأنت صارمة لا تقبلين التهاون بها.
وكنتُ اشتكي لك قسوة الوالد وعنفه وكنتِ تصبرينني وتحثينني على سماع كلامه وعدم عصيانه فهو لا يعمل إلا من أجل مصلحتي.
لقد بقيتِ بعيدة عن الوالد لأكثر من عشرين عامًا، وبعد أن غادرنا إلى رحمة الله قبل أربعين عامًا صبرت وتابعت تربية ورعاية أخوتي الصغار ورعيت يتمنا، وداومت على زيارة المسجد الحرام حجًا وعمرة، حتى تكرر منك الحرص على صيام شهر رمضان هناك مع تكرار أداء العمرة لمرات عديدة سنويًا حتى أن خالي عبداللطيف -رحمه الله- في إحدى المرات كان يرافقك بالعودة من مكة فقابلتكم في الطريق خالتي منيرة - رحمها الله - مع أولادها قاصدين مكة فكنت تبكين فسألك خالي عن بكائك فقلت ليتني معهم ذاهبة لمكة - فقال لك: لم يمض على فراقك مكة إلا ساعات فقلت (ولو).
وكونت شبكة من المعارف التي تطورت إلى صداقات مع كثير ممن يتردد على الحرم مثلك من داخل المملكة وخارجها، فكثيرًا ما أسمع اتصال أم عبده من اليمن أو أم شفيق من مصر أو أم عبدالرحيم من المغرب اتصالهم بك ودعاؤكم بأن يجمعكم الله في دار كرامته.
تذكرت أشياء كثيرة قد لا استطيع كتابتها.. ولكن كما قيل في الأثر: إذا أحب الله عبده أطال عمره وحسن عمله وأنتِ إن شاء الله منهم.. فقد قرأت ما كتب بعد رحيلك أنك بلغت التسعين من العمر فتذكرت أنك قبل سنوات قليلة زرتني بالرياض وكنت تشكين بعض الآلام وتصرين على ألا يعالجك إلا طبيب قديم اشتهر بالرياض قبل نصف قرن وكثر مادحوه لعدم وجود سواه.. وعندما لم نجده عرضت عليك الذهاب لمستشفى آخر به طبيب مشهور.. وقد سأل عن عمرك؟ فقلتُ ثمانين - فقلت بغضب ثمانين!! فعرفت باحتجاجك على ذكر سنك.. لم ينفع علاج الطبيب فذهبنا لآخر وسأل السؤال المعتاد.. العمر فقلت ما سبق فرددت بغضب (بَعد) مستنكرة الثمانين، فقلت لك أنني قد بلغت السبعين وسبق ولادتي أخ وأخت فكم تعتقدين عمرك؟ فسكتِ..
وعند تعرضك للمرض الأخير وانتشار الأورام الخبيثة في جسمك جئت للرياض، ولإجراءات الدخول للمستشفى تجنبت الذهاب معكِ لغرفة الكشف الأولي وتركت أخي عبدالمحسن وابني يعرب يذهبان بك، وسأل الدكتور عن عمرك فأجاب أخي أنك بالثمانين فاعترضت بغضب، فقال عمرك أربعين.. فرددت بقولك: هذا قليل. فلما علمت بذلك قلت من أجل هذا لم أذهب معكم، فتذكرت حديثها مع صويحباتها وأنا صغير السن، بأن نساء عائلة... معمرين، فتذهب الواحدة منهن إلى باب النخل (المزرعة) لتنادي بصوت عال لأهلها بالمجيء لتناول الغداء قائلة: يا جدة نادي جدتك وتعالوا!! فقلت لأمي أنك قد بلغت مثلهن فلدى حفيدتك مزنة الصالح حفيدة هي هديل الغديان وغيرها.
ومهما كان كنت وأنا بالسبعين أنظر إليك كطفل ما زال يخطو بحذر، فقد قيل: يظل الرجل طفلاً حتى تموت أمه، فإذا ماتت شاخ فجأة، فهي المخلوق الوحيد الذي يعطيك بلا مقابل..
كنت في زياراتي الأخيرة لك بالمستشفى تسألينني دائمًا عن صحتي (وشلون صديرك يا وليدي؟) فكنت أتوارى خجلاً عندما تتحاملين على أوجاعك وتسألين عن صحة من يواسيك وكأنك تتناسين ما تشكين منه.
وأخرج من المستشفى بمعاناتي وآلامي التي اختزنتها وأنا أتصبر وأتجلد أمامك، وبمجرد أن أسير بالشارع وأرى أرقام السيارات أبحث عن الحروف التي توضع معها، فإذا وجدت (ح ص ه) انفرجت أساريري وعاد لي الفرح والأمل وهدأت السرعة لأبقى قريبا من اسمك.
آخر يوم وقف لسانك عن الكلام هو اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان وآخر ما سمعته ترديد الشهادة والآية الكريمة: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت) رحمك الله رحمة واسعة وغفر لك وجعلك من الصديقين والشهداء..
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر من شارك بمواساتي وتعزيتي في أعز مخلوق سواء حضوريًا أو كتابيًا أو هاتفيًا لهم الشكر والتقدير ولا أراهم الله مكروهًا في عزيز..