عندما حضرت الوفاة أبا بكر الصديق رضي الله عنه سكنت ابنته الحَصَان الرَزَان عائشة رضي الله عنها حزناً على أبيها وامتثلت قائلة قولاً لحاتم طيء:
لَعمرُكَ ما يُغني الثراء عن الفتى **** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ
فاستوقفها والدها الصّدِّيق معترضاً على شاهدها بشاهدٍ من كتاب الله:
يا بُنية لا تقولي هذا. ولكن قولي: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ .
تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ خبر وفاة إنسان عزيز على قلبي، عزيز على كلِّ من عرفه وتعامل معه.
ضيوفٌ نحن في الدنيا
ودائعٌ مُسترَدة
عندما تتجلى لنا القوة الإلهية وتقهرنا بحقيقة الموت
وعودة الأرواح لبارئها
نمتثل طوعاً أو كرهاً للحقيقة الموازية: عجزنا عن فعل شيء.
ضيوفٌ نحن في الدنيا يا دكتور محمد.
تجمعنا محطات الحياة في لقاءات عابرة. بعضها يعتريها النسيان، وبعضها يظلُّ يتألق في سماء الذاكرة.
عندما قرأت خبر وفاة معلمي القدير محمد بن سليمان القويفلي وجدتني لا شعورياً أقرأ الخبر ثانية
لا أدري كيف
ولكني قرأته للمرة الثالثة.
ربما ولسبب ما
لم أعد أقرأ جيداً.
يا ربي
«كيف يعني مات»؟
وكأن على الموت استئذاننا أولاً قبل أن يأخذ عزيزاً علينا.
دكتور محمد:
أيها الحاضرُ رغم الغياب
آمنتُ بالله
لكل أجلٍ كتاب
لا أعرف بماذا أرثيك؟
بكرم السجايا
أم بإخلاص العطاء
ببساطة التعامل
أم بالثراء؟
نعم
هو الثراء والثراء هو.
تراه ثرياً من كل شيء جميل.
باقة من الأخلاق العطِرة. يندر وجودها في شخصية واحدة.
غير أن الجميع يُجمع
بأنك
كأنك
فردٌ من عائلته.
- بالنسبة لي كان الدكتور محمد: أخي الكبير الذي «أستحي منه» وأريد أن أكون عند حُسن ظنه.
لماذا نتعلق بمن يُثير فينا مشاعر الحياء؟
لا أعرف كيف أرثيك.
طفرت عيناي بالدموع عندما استوعبت الخبر.
معلمي القدير
بل معلمي الغالي.
سأدع نفسي تكتب ومضات متناثرة كمشاعري المتبعثرة هذه اللحظة.
محمد القويفلي.
أستاذ النقد والأدب في جامعة الملك سعود ورئيس تحرير مجلة قوافل قبل أن يُفضِّل التقاعد المبكر لينضم إلى مركز قياس مديراً للاختبارات التعليمية.
كان معلماً حقيقياً لطلابه وطالباته.
منه تعلمت أهمية البحث في أساس الظاهرة وليس الظاهرة فقط.
التنقيب والنبش في الأساسيات لمعرفة كيف تبدأ الأشياء.
كم غيّرني هذا الأستاذ؟
فلم أعد كما كنتُ من قبل.
وكم هم مؤثرون أولئك المعلمون المُلهمون
حين يفتحون لطلابهم نوافذ المعرفة على مصراعيها.
يبدو أثناء تدريسه لنا كأنه يحكي حكاية مُدهشة متتابعة الفصول.
يغادرنا في نهاية كل محاضرة وقد اعترتنا حالات متفاوتة من التساؤلات ومراجعة الذات.
في محاضراته يسود الهدوء والاستماع الكامل
«مندمجين» في حديثه أيما اندماج.
وجملة واحدة منه حركت في ذهني قلق المعرفة، وكانت كفيلة بأن أُقيم حولها رسالة الماجستير.
لا أستطيع إخفاء ألمي برحيلك يا دكتور.
كنت لي ولغيري؛ أخاً مرشداً ودليلاً جميلاً يأخذ بأيدينا إلى مراقي الصعود والتميز.
تعلمنا منك الأخلاق يا دكتور محمد.
بل وتعلمتُ الشدة الحانية
ولن يفهمني إلا من كان محظوظاً
وقابل في طريقه إنساناً
مثل محمد القويفلي
لطيفاً
ولا يرد سائلاً
هل تعرفون شخصاً يُقدم الترحيب والجدية واللطف طوال الوقت؟
إذن حافظوا عليه.
يُقال
إن المؤمن كالغيث
أينما وقع نفع.
هكذا كان محمد القويفلي.
ساعدني أكثر من مرة مساعدات حقيقية في كل المراحل الدراسية.
مرحِّباً بالاستفسارات ولا يرد سائلاً.
بل يُعطي من كل قلبه النصائح والاقتراحات
التي توفر على من يقصده الكثير
من الوقت والجهد.
كم هي عدد المرات التي ساعدني فيها؟
لا أستطيع التذكر.
أغبط أصحاب الوجوه السمحة.
إنّ ما يسكن دواخلنا من سجايا
ينعكس على ملامحنا.
فليست الأشياء بسطوحها بل بخفاياها كما يقول جبران.
وليس الناس بوجوههم بل بقلوبهم.
والدكتور محمد القويفلي كان مثالاً للسماحة
«وجهٌ بشوشٌ وكلامٌ ليّن».
رحمة الله عليك يا دكتوري الجميل
أسأل الله العظيم الكريم
أن يُسبغ عليك من شآبيب رحمته
وسحائب مغفرته
ويجمعنا وإياك في جنة عرضها السموات والأرض
أُعدَّت للذين لا يبغون علوّاً في الأرض ولا فسادا
والعاقبة للمتقين.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
- نوال المجاهد