قلت في المقال السابق إن مرحلة ما بعد البترول بدأت من تاريخ 25 أبريل 2016 حين أعلنت الحكومة عن رؤية عام 2030 وقلت إن المجتمع لابد أن يتفاعل مع هذه المتغيرات المتسارعة القادمة كي نساهم معا في تحقيق تلك الرؤية الطموحة التي تهدف إلى رفاهة المجتمع وتقدمه.
ولكن كيف سيتفاعل المجتمع مع هذا التوجه الحتمي للتغير التي تفرضه طبيعة الظروف المحيطة بنا من ناحية، ونضج الوعي لدى المجتمع من ناحيةٍ أخرى؟.
ولكي نجيب على هذا التساؤل لابد أن نتفق على مقدمتين ضروريتين أو مبدأين أساسيين كي يكونا الإطار الذي يحكم منهجيتنا للإجابة على هذا التساؤل:
الأولى: إن الله -سبحانه وتعالى- أعز العرب بالإسلام ومتى ما ابتغوا العزة بغيرهم أذلهم الله، فهويتنا لا يمكن أن تتشكل إلا من منطلق إسلامي، وكذلك فإن دولتنا - كسعوديين- قائمة على مبادئ هذا الدين العظيم، وتجديد رسالة التوحيد.
والثانية: إن الدين هو العامل المؤثر الذي يُشَكّل شخصية الفرد ويؤثر بها تأثيرا جذريا ونحن كمسلمين نعتبر الدين هو الركيزة الأولى التي تبني شخصية الفرد وتحدد هوية العائلة التي تعتبر النواة الأولى للمجتمع وبالتالي تحدد هوية المجتمع وترسم أطره الأخلاقية ونمط تفكيره الجمعي وكذلك أنماط السلوك الجمعي.
فإذا ما أردنا أن ننهض بمجتمعنا فلابد لنا من مراجعة شاملة لمفهومنا عن الدين وإعادة رسم شخصية المتدين كي يكون المثل الأعلى للفرد، وأن نبحث عن مكامن الخلل في فهمنا لمقاصد الدين العظمى وبالتالي تطبيقنا له وعلينا أن نراجع المنهجية الفكرية التي نتعاطى بها مع مفهوم الدين كي ننزله على أرض الواقع كتشريعاتٍ وكأطرٍ أخلاقية وكمحددات للسلوك العام، التي بدورها تضبط إيقاع المجتمع سلوكاً وإنتاجاً وفكراً.
هذه المراجعة ليست من قبيل الترف الفكري، أو نتيجة لنظرةٍ انهزاميةٍ أمام حضارات الثقافات الأخرى غربيةً كانت أم شرقية، إنما هي نابعة من إحساسٍ عميق بإن العرب قومٌ أعزهم الله بالإسلام، أنى ابتغوا العزة بغيره أذلهم الله، كما اتفقنا سابقاً، وهي أيضاً - أي المراجعة - ضرورة مُلِحّة إذا ما أردنا أن نخرج من هذا النفق المظلم الذي نعيشه من حالة التأزم الثقافي والتعصب الفكري الذي بدأت ملامحه تظهر في نهايات القرن العشرين وزادت حدته في بداية القرن الواحد والعشرين، والتي أدت إلى هذا التطرف الشنيع بحيث أصبح الابن يقتل أمه - العابدة- تقرباً إلى الله كما زُين لهم.
لو رجعنا إلى مفهوم الدين الإسلامي كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن ديننا الإسلامي يُعتبر ثورة فكرية ضد السائد المغلوط من الفكر الذي اختلط بالصحيح من الفكر فحين جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع عرب ما قبل الإسلام في القرن السابع الميلادي كان المجتمع العربي يدين بالحنيفية التي ورثها عن إسماعيل عن إبراهيم عليهما السلام ولكن تلك الحنيفية قد اختلطت بالكثير من التحريفات الضالة التي تخدم مصالح بعض المستفيدين والمتنفذين في المجتمع! حيث كان المستفيدون يستخدمون الدين «المغلوط» كمخدر للعقول ومشرعن للظلم والطغيان واستغلالٍ لبساطة وتدين الناس، نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه البيئة التي يختلط بها الحق بالباطل فنشأ عليه السلام في ذلك المجتمع طفلا يتأثرُ بما يتأثر به أقرانه من الموروث الاجتماعي والذي كان الدين يمثل الجانب الأكبر كون مكة تعتمد اعتماداً كليا على مكانتها الدينية كأهم موردٍ اقتصادي وثقافي ولكن روحهُ صلى الله عليه وسلم كانت نقيةً لا تقبل تلك الشوائب وعقله لا يقبل تلك الأفكار الباطلة المشوهة فعاش مرحلة من عمره عليه الصلاة والسلام مفكرا متأملاً -قبل أن يكون رسولاً- يفكر في تلك الطقوس والعبادات والممارسات وبات عليه الصلاة والسلام يتأمل ويختلي بنفسه في الغار ويزن الأفكار المتضاربة بميزان العقل المحض حتى نضج عليه السلام نضجا عاطفيا وانفعاليا وعقليا كي يستقبل الرسالة السماوية وكي يعبر عنها عن طريق اللغة لإيصالها إلى المجتمع البشري كافة، وكأني به صلى الله عليه وسلّم مرّ بنفس المرحلة النفسية والفكرية التي مرّ بها أبو الأنبياء الخليل عليه السلام حين رفض عبادة آلهة قومه وتقلب في مراحل الشك الذي يؤدي لليقين. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
حين أقول إن الدين الإسلامي هو ثورة فكرية ضد السائد المغلوط من الفكر، وهو تنقية للفكر المتسق مع الفطرة البسيطة التي فطرها الله الناس عليها جميعا فهذا يعني أن الفريضة الأولى التي لا يقوم الدين إلا بها هي فريضة التفكير فريضة فحص ونقض المسلمات بالاستعانة بالعقل الذي وهبنا الله إياه كي نتقرب إلى الله باستخدامه وتوظيفه توظيفا إيجابيا لنتعرف على معالم الطريق الذي يوصلنا إلى الفوز في الدنيا والآخرة، إن الطاقة الإيجابية التي يفجرها الدين في عقول معتنقيه هي طاقة خلاقة تخلق المعجزات. انظر إلى ذلك المجتمع العربي الذي لم تكن له دولة مركزية ولا نظم بيروقراطية ولا جيوش نظامية خلال خمسة وثلاثين عاما استطاع هذا المجتمع البدائي البسيط أن يؤسس دولة عاصمتها المدينة المنورة وحدودها تصل إلى إيران شمالا واليمن جنوبا والخليج العربي شرقا ومصر غربا هذه الدولة المركزية الوليدة هزمت في زمن قياسي حضارة الفرس التي تعتبر من أقدم الحضارات ومن أكثر الأمم تقدما في ذلك الوقت ألا يحق لنا أن نتساءل من أين جاءت تلك الطاقة الخلاقة ومن أين انبعثت تلك الطاقة الخلاقة في ذلك المجتمع العربي البدائي؟! إنه وضوح الفكرة وصدق النية.