د. جاسر الحربش
بيركا ضاحية سويدية تبعد عشرين ميلا تقريبا عن العاصمة ستوكهولم. في القرن التاسع عشر عثر الآثاريون السويديون فيها على مدافن لأسلافهم الفايكنج. أولئك الأسلاف اعتادوا دفن الممتلكات الثمينة مع المتوفى عندما يكون (كان) شخصية هامة. في أحد القبور وجدوا رفاتا لامرأة تختلف في الطول وتفاصيل العظام وفي بقايا الشعر عن الأموات الآخرين. كان الأمر مثيرا للانتباه، والأشد إثارة وجود خاتم بجانب بقايا يدها اليمنى عليه فص من حجر ثمين غير معروف في تلك البلاد عليه نقش بكتابة عربية. تم حفظ الرفات واللقى التي معه في المتحف السويدي الوطني وخيم النسيان على المكان بسبب الحروب الأوروبية المتعاقبة.
قبل سنوات قليلة أجرى الآثاريون السويديون مسحا للمخازن في متحفهم الوطني ودرسوا رفات المرأة الغريبة، وسموها امرأة أو سيدة بيركا الغريبة. اكتشفوا أن النقش على حجر الخاتم باللغة العربية ويقول: «ربي الله» بالخط الكوفي ودل تحليل الحمض النووي على أن سيدة بيركا ذات أصول شرق أوسطية وعلى الأرجح امرأة عربية. للدقة في نقل الخبر الذي قرأته في صحيفة أجنبية هذه الملاحظة: «تمت ترجمة النص على الخاتم في السويد إلى الله» . أعتقد شخصيا بأن الصحيح هو ربي الله، وأن الخطأ في الترجمة كان بسبب طول الذراع القائم لحرف الراء بالخط الكوفي. انتهت الملاحظة.
امرأة عربية مسلمة ماتت ودفنت في أصقاع إسكندنافيا قبل ألف سنة وبيدها خاتم منقوش عليه لفظ الجلالة؟. كيف وصلت تلك المرأة إلى بيركا في السويد ولماذا بقيت وماتت ودفنت هناك؟. كان واضحا من طريقة الدفن ومن اللقى مع الرفات أن سيدة بيركا تمتعت بالاحترام والجاه عند الفايكينج ودفنت مثلما كان السادة والوجهاء عندهم يدفنون. تحولت غريبة بيركا إلى موضوع دراسات متعددة، في التاريخ والجغرافيا والتجارة والمواصلات والعلاقات المحتملة في تلك الأزمنة الغابرة بين الدولة العباسية في العراق وشمال أوروبا المتوحش آنذاك. أما كيف وصلت غريبة بيركا العربية إلى هناك وبقيت وماتت ودفنت، فذلك مما تحول إلى تخمينات وافتراضات لا تخلو من الرومانسية المشوبة بالحزن على غربة تلك العربية في ثلوج الشمال بعيدا عن الأهل والجغرافيا واللغة.
البعض افترض أنها ربما كانت امرأة جميلة وقعت في غرام تاجر من أهل الشمال وهربت معه، وآخرون يفترضون أنها ربما كانت جارية اشتراها سويدي من سوق النخاسة في بغداد آنذاك مقابل الجلود والفراء التي كان الفايكينج يقايضون بها، والبعض يرى بكل بساطة أنها امرأة عربية نهبها غزاة الفايكينج من أطراف الدولة العباسية كما كانوا يفعلون في أوروبا وشمال الشرق الأوسط.
القليلون فقط ركزوا على الخاتم والفص والنقش، ثم اكتشفوا لاحقا من وصف الآثاريين القديم للمدافن في أواخر القرن التاسع عشر أن سيدة بيركا كانت مسجاة نحو الجنوب، ربما باتجاه القبلة نحو مكة. الفايكينج كانوا يؤمنون آنذاك بآلهة الشمال عندهم، أودين وتور ويسجون موتاهم نحو الشمال.
تأثرت كثيرا عندما قرأت قصة غريبة بيركا في مجلة أجنبية وترحمت عليها واستغفرت لها. ثم بدأت العواصف العاطفية والتاريخية تلف في رأسي عن تلك العربية الغريبة فقلت أكتب عنها هذا المقال لتعود عربية بيركا إلى ذاكرة أهلها الأصليين.