بلاد بها كنا ونحن بأهلها
إذ الناس ناس والزمان زمان!!
كم هو جميل أن يتذكر الإنسان أيام طفولته ومراتع صباه، مع لداته وأقرانه، شاكراً المولى أن مدّ في عمره، ومتعه بالصحة، لاوياً عنق ذاكرته مُستحضراً أيامه الأول، أيام لهوه ومرحه مع أترابه وأصحابه، أمثال زميل الطفولة بمدراس الكتاب لتعلم القراءة وحفظ القرآن الكريم بحريملاء، الزميل الحبيب عبدالرحمن بن حمد الشبيب الذي قضينا معه، ومع لفيف من الزملاء أحلى ساعات العمر وأيامه: أيام كنت أناغي الطير في جذل!!.
فقد ولد -أبو عبدالعزيز- وترعرع بين أحضان والديه بحريملاء، وفقد نعمة البصر مبكراً، وكان محل اهتمامهما لتخفيف حزنه على فقد بصره، وقد عاش مع أقرانه المبصرين جنباً إلى جنب في جو يسوده التحابب والتآلف متقداً ذكاء وحيوية، بل إنه يفوق الكثير منهم في سرعه الحفظ والفهم، وقد حفظ القرآن كاملاً وعمره لا يتجاوز الثانية عشر، وكأنه قد سمع قول الصحابي عبدالله بن عباس -رضى الله عنه- راضياً بما قدره المولى جل ثناؤه:
وإن يأخذ لله من عينيَّ نورهما
ففي لساني وقلبي منهما نورُ!!
ورغم الإعاقة البصرية فإنه يشاركنا في مزاولة بعض الحركات الترويحية، وأحياناً لا يبالي في بعضها رغم خطورتها، التي قد تصل إلى موت محقق، أذكر جيداً أنه بعدما يأذن لنا المقرئ -المطوع- قبيل أذان العصر للتأهب لأداء الصلاة، فإننا ننتهز الفرصة للذهاب إلى بعض النخيل والمزارع المتاخمة لمقر دراستنا لنشاهد ونستأنس بمنظر العامل المختص في حفر وطي الآبار، وهو يصعد من أعماق البئر ممسكاً بيديه حبلين متينين واضعاً إحدى رجليه في زمبيل، والأخرى على غرب خالي من الماء....، واذا خرج العامل بادر الزميل عبدالرحمن هو وزميلنا الآخر حمد بن عبدالعزيز الناصر.. فجلسا أو وقفا في الزمبيل، وقالا لصاحب المزرعة أنزلنا سوياً إلى أعماق البئر ثم أعدنا مُحاكاة للعامل المختص في حفر الآبار.. فيجدان في ذلك متعة ولذه تشع في نفوسهم رغم المخاطرة والمغامرة في ذلك، ولايزال ذاك المنظر عالقاً في ذاكرتي رغم تقادم الزمن.
ومن الذكريات مع أبي عبدالعزيز -رحمه الله- أنه قد أتحفنا مرة معشر الأطفال بقطعة من الثلج في مواسم هطول الأمطار وتجمد مياهها في مسارب جريان السيل وسط الحي، فنقوم بامتصاصه غير مدركين تلوثه، من مخلفات الحيوانات، ويظهر أن ذلك قد أكسبنا مناعة عن بعض الأمراض.. -وربما صحت الأجسام بالعلل-.
وبعد برهة من الزمن شخص أبو عبدالعزيز إلى مدينة الرياض لتلقي مبادئ في العلم على يد مشايخنا: الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، وعلى أخيه مفتى الديار السعودية سماحه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وسكن في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- لطلاب العلم المغتربين ترغيباً لهم مع صرف مكافآت شهرية, ثم انضممت إليهم في البيت الذي يسكن فيه مجموعة من الطلبة عامي 1369هـ - 1370هـ، فأصبح مرجعاً لنا في بعض المسائل العلمية والفقهية، وحل بعض الخلافات البسيطة التي قد تقع بين أفراد الطلبة، وظل يحيي الليل ساعات طوال في حفظ بعض المتون المعروفة، ومتن عمدة الأحكام.. حتى تروَّى من فيض العلوم النافعة وما يسمعه من أفواه مشايخنا، -رحم الله الجميع رحمة واسعة-، وقد كلّف في سلك القضاء مرات عديدة بعد التخرج من كلية الشريعة، فامتنع عن القضاء تورعاً، وبعد ذلك بفترة من الزمن عينه سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم في مدينة حائل ليكون مرجعاً ومفتياً، وقبل ذهابه إلى هناك رأى في المنام رؤية أزعجته فعدل عن السفر، فاستمر في عبادة الله بقية عمره ما بين المسجد ومنزله حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها في بداية عام 1387هـ، وقد خلف الشيخ عبدالرحمن بن شبيب ذرية صالحة ابناً وابنة يجددان ذكره بالعمل الصالح، وهذه الكلمة الوجيزة جزء من ذكرياتنا الجميلة معه:
فقد الأحبة والأحزان تتبعه
وفي الرثاء لهم بر وإحسان!!
-تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته-.
- حريملاء