لا مناص من أن العنف المرضي أو السلوك التوحشي عند بعض إفراد المجتمع يعد ظاهرة نفسية اجتماعية تعاني من إرهاصاتها كل المجتمعات البشرية، سواء المجتمعات المتقدمة أو المجتمعات النامية، ولكن تختلف معدلاتها حسب درجة الوعي المجتمعي، والبعد الحضاري والعمق الثقافي.. فتلك ظاهرة عالمية لا يسلم منها أي مجتمع على مر التاريخ، وتعتبر هذه القضية الخطيرة نتاجاً لما اعترى وظيفة التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والعقلية في النظام الأسري من تحولات رهيبة وتغيرات سريعة يشهدها نسيجنا الاجتماعي في واقعه المعاصر نتيجة التحديث والمستجدات التي طرأت على سطحه الاجتماعي. أدت بالتالي إلى ظهور أنماط جديدة من السلوك الاجتماعي والعادات والتقاليد في كثير من الاتجاهات الفكرية والسلوكية والقيمية المخالفة لقواعد الضبط الديني والاجتماعي والأخلاقي.. ومنها ما يسمى بالسلوك التوحشي أو الرجل العنيف، الذي ظهر - للأسف - في مجتمعنا السعودي بصورة مزعجة ربما تصل حد الظاهرة إذا لم تكبح جماح هذه المشكلة المجتمعية وضبط توازنها..!! ومعروف أن من الأسباب التي تسهم في تشكل وبناء الشخصية العنيفة ذات السلوك التوحشي الشاذ قد تكون خللاً وظيفياً في التنشئة الاجتماعية والنفسية التربوية والثقافية والدينية والفكرية. وليس شرطاً أن يكون العنف فقط.. عنفاً جسدياً أو لفظياً..! بل ظهرت أنواع أخرى من العنف كنتيجة حتمية للتغير الاجتماعي وإرهاصاته داخل النسيج الأسري، ومنها العنف الرمزي.. أي الاحتقار والازدراء والإهانات داخل الحياة الزوجية، والعنف الاجتماعي مثل حرمان الزوجة من زيارة أهلها فترة طويلة، والعنف النفسي، أو كما يسميه علماء النفس (القاتل الصامت).. مثل ممارسة الضغوط النفسية على الزوجة بتهديدها بالزواج عليها، أو سوء معاملة الأب تجاه الأبناء والزوجة ربما يحدث لهم صدمات نفسية وانفعالات وجدانية ومخاوف مرضية تهدم الذات البشرية وتسبب بالتالي اعتلالاً في صحتها النفسية.. إلخ.
وهذه المظاهر من العنف وتراكماتها السلبية لا شك حصيلتها وخلاصتها تكوين شخصية مرضية (متوّحشة) في سلوكها, ذات طابع انتقامي, سريعة الغضب والانفعال الأعمى.. قد تكون أشبه بالبارود القابل للانفجار عند أبسط موقف يحصل لها داخل أو المنزل خارجه, ولذلك فإن البيئة المحيطة بالفرد سواء المتمثلة في الأسرة أو في البيئة الاجتماعية الخارجية إنما هي الأساس الذي يكتسب منه الفرد أنماط سلوكه ويحدد على ضوئها ميوله واتجاهاته الفكرية، والأخلاقية، والسلوكية، خصوصاً أن الفرد لا يولد شريراً، ولا عنيفاً، وأيضاً الانحراف السلوكي لا يرجع إلى نقص فى طبيعة الفرد أو إلى نزاعات داخلية في نفسه البشرية، وإنما يعود ذلك إلى نقص في المكون البيئي، وعدم تهيئة الجو النفسي والمناخ الملائم للتربية والتوجيه, أو الرعاية والتنشئة الأسرية بصورة سليمة، فهناك بعض الدراسات المتخصصة حول تأثير علاقة السلوك الأبوي الصارم غير السوّي على صحة الأبناء النفسية والتربوية، كشفت معطياتها أن هذا النمط من السلوك الأبوي العنيف، أو المتوّحش يسهم في بناء شخصية عدوانية ومتطرفة (فكرياً وسلوكياً) لهم، كما أظهرت أيضاً أن التسامح وقيمه التربوية يساعد في وقاية الطفل من الانفجارات العاطفية والعدوانية..!!, كما أن جماعة الأصدقاء والأقران يلعبون دوراً بنيوياً في تعزيز هذا السلوك غير السوي واكتسابه وتقليديه, وطبقاً لنظرية التعلم الاجتماعية تؤكد أن الطفل يكتسب بعض السلوكيات من خلال قنوات التقليد والمحاكاة والتعلم الاجتماعي من اقرانه وأصدقائه, كما أن بعض المقاطع التصويرية المرئية التي نشاهدها عبر مواقع شبكات التواصل الاجتماعية أو تظهر فيها حالات من العنف والشجار والنزاع, واللقطات الدموية والاعتداء على الغير لأتفه الأسباب تؤثر أيضاً في غرس مثل هذه السلوكيات المشينة في وجدان الأطفال لدرجة أن البعض من شدة غضبه ولحظة انفعاله يتحول إلى شخصية متوحشة تفقد توازنها العصبي والنفسي والعاطفي, وربما تخسر حياتها في لحظة شيطانية، وبالتالي قد تخلف وراءها مشكلات ومآساي وأحزان بعد أن أصبحنا نسمع ونشاهد الضرب والطعن بالسكاكين والسواطير وإطلاق النار في المنازعات والشجار، بل ومن الجراءة الشروع في القتل عند أتفه الأسباب - في بعض المواقف الصراعية - من دون وزاع ديني، أو ضابط اجتماعي، أو رادع أخلاقي. ولذلك من الأهمية بمكان رفع مستوى الوعي الأسري والمجتمعي وإيضاح خطورة ها السلوك الشاذ.
(العنف والعدوانية) على الصحة النفسية والعضوية والاجتماعية للفرد, ومدى تأثير انتشار فيروساتها على البناء الاجتماعي ووظائفه, مع عدم الإغفال عن دور وأهمية المؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية والتربوية والتعليمية.. في تبصير وتنوير المجتمع بخطورة «العنف أو السلوك المتوحش» وانعكاساته الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأمنية.