د. حمزة السالم
سياسة الثمانينيات تتلخص في ايقاف التنمية وتجميد المشاريع وشد الحزام وفرض الضرائب والاقتيات على فوائض الطفرة واستهلاكها، إلى أن يأتي الله بالفرج ويرتفع النفط. ولعلها كانت سياسة ناسبت زمانها. فقد أغرق طوفان الطفرة الأولى المجتمع السعودي. فاحتاج عقداً من الزمان بعد انتهاء الطفرة لامتصاصه، وعقدا اخر ليشعر الناس بالجفاف. بالإضافة إلى عاملين مهمين الأول أن الأوضاع السياسية كانت مختلفة عن اليوم اختلافا شاسعا، بدأ يظهر من بعد حادث سبتمبر، فهو يكبر يوما بعد يوم. وأما الثاني فهو سقوط حواجز الاتصالات والمسافات.
ولهذا، فسياسة الثمانينيات غير ملائمة اليوم، فالتنمية أصبحت أمرا سياسيا عاجلا فضلا عن كونه أمراً اقتصادياً. والتنمية تحتاج إلى شرطين. العقل المهني الوطني والمال. والعقل المهني يلزم من وجوده وجود المال ولا عكس.
فشرط التنمية الجوهري هو العقل الوطني المهني. وهو شرط قائم بذاته، لازم للتنمية متعد لغيره فيغني عنه. وهو شرط غير متوفر لدينا مهما حاولنا خداع أنفسنا. واما المال فهو شرط تابع غير قائم بذاته، وغير متعد. ومقياس توافر المال بالنسبة لبلادنا هو توافر الاحتياطيات النقدية الاجنبية. فلو توفر العقل المهني الوطني لتوفر المال بلا شك، كحال كوريا مثلا. ولو حوفظ على الاحتياطيات الأجنبية لتوفرت لنا الفرصة مرة اخرى لبناء العقل الوطني المهني. ولكن توفر المال لا يلزم منه توفر العقل المهني الوطني، فقد ضيعنا فرصتين حتى الان، الطفرتين الأولى والثانية. وغياب العقل المهني الوطني مصيبة المصائب اليوم، وهو المعوق الحقيقي للتنمية.
ومن اسباب توفير العقل المهني الوطني، هو الفكاك من أسر التقدم العلمي والاقتصادي الامريكي الذي أسر العالم كله. فالمتقدم عادة يقود المتاخر. ولهذا فأمريكا تقود العالم كله من خلال تقدمها الاقتصادي والعلمي وتتابع تطويرها لهذا التقدم. فالعالم يلهث من ورائها للحاق بها. ناسيا في غمرة لهاثه أن العلماء ومراكز البحث والبحوث في امريكا، بشر من البشر، فهي تعتني اساسا ببلادهم وقومهم لا بغيرهم. وخروج الابحاث عن ذلك أحيانا، فإنما هو من أجل توسيع الافق العلمي ليخدم الداخل الأمريكي.
وإن كان هناك علوم يتفق فيها البشر فيستطيع حتى عدو أمريكا الاستفادة من علوم أمريكا، كالصناعات والطب ونحوها، إلا أن هناك مجالات من الخطأ الكبير اتباع الطريقة الامريكية بها، ومن أهم هذه المجالات المجال الاقتصادي.
فالاقتصاد اليوم مبني على الفلسفة الاقتصادية الأمريكية وعلمائها. ولذا فهي منطلقة من تصوراتهم وتتبع احتياجاتهم. ومع ذلك فالعالم كله يتبع فلسفة اقتصاد واحد . فبالله ولله، كيف يصلح نظام ربط عمله مع فكر اقتصادي امريكي؟!. او يصلح نظام ضرائب في بلاد غير ديمقراطية؟!. وكيف يُركب اقتصاد مركزي معتمد على الحكومة مع التنظيرات الغربية؟!. ووالله إن العاقل المدرك للاقتصاد يتقلب بين الضحك والبكاء والتعجب وهو يستمع للاقتصاديين والمحليين الماليين وهم يتحدثون عن مؤشر من مؤشرات الاقتصاد عندنا.
وأحدث شاهد على ذلك، خوضهم في تحليل انخفاض مؤشر ثقة المستهلك عندنا. فهم يحللون ويصلون الى نتائج معتمدين على معطيات النظرية الاقتصادية. والنظرية الاقتصادية اصلها ملاحظات لوقائع حوادث حقيقية، رُبط بينها برابط مُطرد فصارت نظرية اقتصادية. والحوادث إنما وقعت في بلاد، معطياتها بعيدة كل البعد عن معطيات بلادنا. فمثلا انخفاض مؤشر ثقة المستهلك هو أمر جيد عندنا لان فيه اشارة إلى التقليل من شراء المواد المستوردة التي تستنزف الاحتياطيات. بينما هو مؤشر سيئ عند امريكا والدول المنتجة لانه يعني انخفاض الانتاج والبطالة. فبالله على كل عاقل، كيف نفلح ونحن نسلم امورنا لقيادة من يساوي بين مؤشر ثقة المستهلك السعودي ومؤشر المستهلك الأمريكي؟!. فالله المستعان.