د. محمد عبدالله العوين
يعتمد أردوغان في سياسته على التعامل بالمقدار نفسه من قوة الاتجاه والحميمية مع جميع الأطراف التي يتفق أو يختلف معها، وهو بهذا الأسلوب يلعب على كل الحبال؛ بحيث لا يعرف له صديق من عدو، فهو اليوم مع الروس لطيف الجانب عذب الكلمات بعد أن كان يتوعد ويتهدد؛ لكنه في الوقت نفسه - كما نقلت مصادر صحافية - يتواصل سراً مع نظام الأسد عدوه في العلن ليطلب منه التوسط عند «بوتين» بعد أن ساءت العلاقة معه على إثر إسقاط الطائرة الروسية، وهو قريب من جماعة الإخوان إن لم يكن إخوانياً صرفاً؛ ولكنه في الوقت نفسه يتواصل بالمقدار نفسه مع دول الخليج التي لا تتفق مع أيدلوجية الجماعة على الإطلاق، وهو أيضاً يتطلع أن تحظى تركيا ببركة الانضمام للاتحاد الأوروبي ويقدم التنازلات في نظام الحياة الاجتماعية والقانونية كي تكون تركيا أوروبية خالصة وتحافظ على المنطلقات والقيم التي أسسها أتاتورك بعد إسقاط الخلافة العثمانية، ويريد أن يثبت للغرب أن أيدلوجية حزب العدالة والتنمية «علمانية» كما هي أحزاب أوروبا الحاكمة، ويطمح أن تتحول تركيا من انتمائها الشرقي وتتخلى عن الإرث الذي مزقه مؤسس تركيا الحديثة «كمال أتاتورك» لتكون واحدة من الدول الأوروبية في تشريعاتها وقوانينها ونظام حياتها الاجتماعي، يقول أردوغان: «إن حزب العدالة سيواصل السير على طريق حماية القيم الجمهورية، ومن بينها العلمانية» وفي الوقت نفسه يؤكد هو وأقطاب «حزب العدالة» على أن تركيا وريثة الخلافة العثمانية، وأن الإسلام هو منهج الحياة في تركيا، وأن الخلافة العثمانية كانت تهيمن على نصف الكرة الأرضية؛ فيدعون إلى «عثمانية جديدة» كما يقول أحمد داود أوغلو: «إن لدينا ميراثاً آل إلينا من الدولة العثمانية، إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد».
أسس رجب طيب أردوغان «حزب العدالة والتنمية» في 14 أغسطس 2001م على أنقاض حزب «الفضيلة» الذي أسسه أستاذه نجم الدين أربكان بعد أن تم حظره، واتخذ سياسة مختلفة كل الاختلاف عن نهج معلمه قائمة على التوافق والجمع بين المتضادات.
لا شك أنه يتملك مقدرة فائقة في القفز على كل الحبال واللعب في كل الميادين والتصالح مع الأعداء أو الافتراق مع الأصدقاء، أو التظاهر في العلن على الأقل بالافتراق حين تشتد العواصف كسباً للتعاطف، كما هي علاقته مع إسرائيل أو مع إيران.
والحق أن القارئ المتمعن لسلوك أردوغان السياسي والفكري يصاب بالحيرة؛ فهو وإعلامه يصبان جام غضبهما على النظام السوري؛ إلا أنه ينسق معه في مراحل، وهو يتبرأ من «داعش» إلا أن مطار إسطنبول هو نقطة تجمع مقاتليه، وهو يدعي أنه يشن حرباً على هذا التنظيم الإرهابي بينما هيأ له الفرصة لدك الأكراد وتدمير مدينة «كوباني» والجيش التركي يراقب على بعد أمتار؛ بل على مرمى حجر!
وبعد وأد الانقلاب الفاشل هل انحسر الخطر عن تركيا لا عن أردوغان؟! وبعد أن مني الانقلاب بخيبة كبيرة هل ستكفي آثاره لتحقيق المطلوب من الانقلاب الفاشل نفسه؟!
ومع كل هذه الميكافيلية التي يتعامل بها هل سينجو من المأزق «الانقلاب» الذي أوقعه فيه من يكيد لتركيا لا له فحسب، ومن يخطط للمنطقة لا لتركيا فحسب أيضاً؟!
وعلى الرغم مما قدم من تنازلات فائقة لأوروبا، وعلى الرغم من مهارة اللعب على الحبال خلال أربعة عشر عاماً مع الأصدقاء والأعداء؛ احتضنت أمريكا خصمه اللدود الداعية الصوفي السني «عبد الفتاح جولن» كما احتضنت فرنسا قبل أربعة عقود الداعية الشيعي «الخميني» وعاد الشيعي الفارسي إلى إيران فقلب الأوضاع في المنطقة العربية على الوجه الذي يرضي من احتضنوه، فهل سيعود السني التركي «جولن» من منفاه الأمريكي ليكرر تجربة الخميني؛ ولكن بطريقة مختلفة ترضي أيضاً من احتضنوه وهيأوه ليؤدي دوراً ما مرسوماً في المخطط؟!
هل ستنتهي آثار الانقلاب الفاشل عند وأده أم أن ما بعد السيطرة عليه من تداعيات واحتقان قد يهيئ لمرحلة «جولن» والدور المناط به؟!