د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ينطلق المثقف من أسسٍ يؤمن بها، وفلسفاتٍ يعتقد صحَّتها، فينظر ويؤسس ويعالج ويبدي رأيه معتمداً عليها، ومتكئاً على مبادئها وأفكارها، فإن وجد جماعةً تنتهج الطريق نفسه فلربما استظلَّ تحت ظلها، واستشهد بكبارها، واطمأنَّ لآرائها، ودافع عنها أمام خصومها، بل ربما اتخذ -دون أن يشعر- بعض أصحابها رموزاً يقتدي بهم، ويثني عليهم في كل محفل.
ولا شك أنَّ المثقف الحقيقي هو مَن يعي تماماً أنَّ عليه أن يطوِّر نفسه في كلِّ حين، وأن يراجع آراءه في كلِّ وقت، وأن يعيد النظر في أفكاره وفلسفاته؛ لأنه يدرك أنَّ كلَّ رأيٍ قابلٌ للمراجعة، وأنَّ السياقات الثقافية والاجتماعية قد تكشف له عن بطلان ما كان يؤمن به، وأنه حان الوقت للتغيير والتبديل وإعلان التراجع واتخاذ منهجٍ جديدٍ لربما كان يسخر منه في السابق ويرى فيه تخلُّفاً ورجعية، وهو بهذا التراجع يعي أنَّ المثقف ينبغي أن يكون شجاعاً في مثل هذه المواقف؛ لأنَّ مثل هذا التراجع يتطلَّب شجاعةً وجرأة، وأن تكشُّف الحقيقة له من وجهة نظره أهمُّ من أيِّ شيءٍ آخر.
وإذا كان هذا الأمر لا إشكال فيه؛ لأنَّ طبيعة الإنسان التطوُّر والتغيير، أما الذي لا يفعل فإنه يموت، فإنَّ الإشكال هو ما يصدر بعد ذلك من مواقف عن بعض المثقفين الذين كانوا يسيرون معه في اتجاهه القديم، ويدعمونه في آرائه السابقة، ويدافعون عن أفكاره الماضية، وهنا تجدهم ينقلبون عليه، ويهاجمون أفكاره، ويحاربون منهجه، ويسخرون منه ومن تحوله، بل ربما وصفوه بضعف الشخصية والانتكاس وقلة الفهم والمعرفة، جازمين أنهم على صواب، وأنَّ غيرهم في ضلالٍ مبين. والحقُّ أنَّ مثل هذه (الانقلابات) لا تصدر عن بعض المثقفين فحسب من أصحاب التوجه القديم لصاحبنا المتراجع، بل إنَّ كثيراً من أفراد المجتمع من المتعاطفين مع هذا التوجه -باختلاف مستوياتهم الثقافية- يشاركون في هذا (الانقلاب)، إذ ينظرون إلى هذا المثقف نظرةً ملؤها الازدراء والاحتقار، ويحمدون الله الذي عافاهم مما ابتلاه به، ويتعوَّذون من رداءة الحال وسوء المنقلب.
وإذا كان هذا الموقف يمكن فهمه حين يصدر عن عامَّة الناس فإنَّ الغريب فيه كونه صادرا عن المثقفين أنفسهم، أولئك الذين يُفترض أن يكونوا المثال والقدوة في مراجعة الآراء والجرأة على التغيُّر والتغيير، وعدم الخشية من إعلان التراجعات، لأنهم أيضاً المثال والقدوة في البحث عن الحقيقة والدفاع عنها مهما خالفتْ الأهواء وتنافرتْ مع النفوس، غير أنَّ الواقع يشهد بغير ذلك، إذ تتفاجأ بأنَّ أصحابك -الذين كنت تتوقَّع منهم حتى المجاملات في أمورك الخاصة فضلاً عن الدعم والتأييد في التوجهات المشتركة- يتحولون إلى أعداء وخصوم بمجرد أن خالفتَ منهجهم، وتراجعتَ عن موقفهم.
ثم إنَّ هناك صورةً أخرى من صور (الانقلاب) الثقافي عكس هذه الصورة تماما، وهي حين ينقلب المثقف على أصحابه، فيصفهم بالتخلُّف والرجعية، ويأسى على أيامٍ كان يؤمن بأفكارهم، ويتحسَّر على أوقاتٍ كان يحمل لواءها ويدافع عنها، بل ربما فجر في الخصومة، وجرتْ على لسانه ألفاظٌ شوارعية في وصف أصحابه وأفكارهم تأنف منها جدران دورات المياه، كل هذا لمجرَّد أنه راجع موقفه، وتأمَّل في فلسفته وأفكاره، فتبيَّن له عدم صلاحيتها من وجهة نظره، وبدلاً من الحوار والمناقشة وبيان أسباب التراجع بهدوء وتحليلها بتأنٍّ، وإقناع أصحاب التوجهات الأخرى بصحة ما توصل إليه، تراه يهاجمهم، ويسخر منهم كأن لم تكن بينه وبينهم مودة، وتعامل معهم بازدراء واحتقار، واعتقد في قرارة نفسه أنه هُدي إلى صراطٍ مستقيم.
إنَّ مثل هذه (الانقلابات) الثقافية التي تصدر عن بعض المثقفين تكشف لأفراد المجتمع الواعي الوجه الآخر للثقافة في مشهدنا المحلي، وهو وجهٌ مزرٍ مخزٍ مخجل، ينبغي أن يترفَّع عنه العامي قبل المثقف، كما أنه جانبٌ من الجوانب المظلمة السوداء في هذا الفضاء الثقافي، حيث تفصح هذه المواقف عن حجم المجاملات التي تكتنف مشهدنا الثقافي، وتؤكد أنَّ كل ما يهم بعض المثقفين هو أن ينتصر لنفسه، وأن يظهر بالمظهر المثالي أمام المجتمع الذي وثق به ورآه مثالاً في المعرفة الواسعة والتفكير المنطقي الصحيح، وإذا به يهاجم كلَّ مَن يغيِّر توجهاته، ويسخر ممن يراجع أفكاره وفلسفاته، ويفجر في خصومة كلِّ مَن يخالفه في المنهج والمبدأ.
إنَّ المثقف الحقيقي هو أول من يجب أن يعي أن تعدُّد الآراء واختلاف التوجهات وتباين الفلسفات في مشهدٍ ثقافيٍّ واحدٍ ظاهرةٌ صحيةٌ بكلِّ المقاييس، وأنَّ الاختلاف لا يفسد للود قضية، وأنه لا أحد يملك الحقيقة كاملة، فكلٌّ يُؤخذ من قوله ويُردُّ إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم، وأنَّ مراجعة الآراء والتحول من اتجاهٍ إلى اتجاهٍ ليس نقصاً ولا مثلبة، بل هو نوعٌ من التطور في الفكر، وبرهانٌ على أنَّ الإنسان حيٌّ لم يمت، وأنَّ كلَّ الآراء والفلسفات والأفكار مقبولةٌ ما لم تمس أساساً للدين، أو أمناً للوطن، أو تتسبَّب في اعتداءٍ أو تقييدٍ حرية، فهذه خطوطٌ حمراء يجب الوقوف عندها، أما ما بعدها فأمره يسير، والخلاف فيه واردٌ مقبول.
ثم إنه ينبغي أن يدرك هذا المثقف أنَّ مثل هذه (الانقلابات) تسيء إلى المشهد الثقافي، وتكشف عن عوراته، وتزهِّد المجتمع فيه، لأنه إن قُبلتْ هذه المواقف من العامة فلا يمكن قبولها من مثقفٍ يُفترض أنه يؤمن بحرية التفكير واستيعاب الآراء وضرورة المراجعة وأهمية التطور في التفكير والثقافة، واحترام الرأي الآخر مهما كان حجم الخلاف معه، ومعالجة الأفكار والنقاش فيها بموضوعية، وعدم إقحام الجوانب الشخصية، والابتعاد عن تصفية الحسابات، وهي أمورٌ كفيلةٌ بأن تجعل مشهدنا المحلي في غاية النقاء والمثالية والنفع، مما يسهم في تطور وطننا الحبيب ثقافياً وفكرياً وحضاريا.