ياسر حجازي
(1)
منذ الصغر، كغيري من أبناء العرب- نشأتُ على عداء اليهود، كُره اليهود، ولا يقف التعليل عند حدود الصراع العربي الإسرائيلي/ عند حدود: (احتلوا أرضنا)، بل يكون التعليل دائماً: «أنّ اليهود أعداء العرب، أعداء الإنسان، أنّ فيهم كلّ صفات الإنسان الشريرة، أنّهم خُلقوا على السوء والشرّ والباطل والخيانة والغدر وكلّ ما فيه ضرّ للإنسان، وضدّ العربي المسلم تحديداً... وإلى آخر هذا التشويه المكرور»؛ ذنبٌ مَنْ هذا التعميم؟ وكيف يؤمن بذلك من يدّعي إيمانه القوي بمنطق الآية الكريمة: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى)؟! إلى أيّ مدى قد سلبَ هذا التعميم قدرة العقل العربي على رؤية الأمور بمعايير واقعيّة لا تحمّل شعباً وزر أفرادٍ أو وزر حكايات تاريخيّة؟ إلى أيّ مدى قد طمسَ هذا التعميم مفهوم قيمة الفرد تحت استبداد مفهوم الجماعة؟
كانت المدرسة، التلفزيون، مجالس الرجال والنساء، خُطب الجُمعِ، «تلعن..» اليهود بالجملة، وتصبّ جام الدعوات عليهم وعلى نسلهم وزرعهم؛ وكان وصفهم الديني وفق تفسيرات وتأويلات إنسانيّة: (المغضوب عليهم) ولم نقف يوماً عند هذا التعميم وخطورة أن نحمّل شعباً كاملاً خطايا الإنسانيّة كاملةً، وهو تصوّر إذا ما تأمّلته جيّداً وجدت فيه معنى الخلاص النهائي لشعبٍ على حساب شعب آخر، ومعنى الفداء والقربان، هكذا تكون الخطايا في عنق اليهود قرباناً عن جميع الإنسان، وبذلك يتساوون مع الشيطان في ثقافة العرب المسلمين، بحيث إنّ ما ورائيّة-طبيعة الشيطان الميتافيزيقية غير المرئيّة تحتاج إلى ما/ومن يجعلها مجسّداً/مرئيّاً، فيكون اليهودي هو الممثّل الطبيعي لهذه الشخصية الماوراء طبيعية من وجهة نظر عربيّة/إسلاميّة.
وكان التعليم الديني (حتى القومي للأسف لم يتخلّص من أثر العنصريّة الدينيّة والعرقيّة) يستمرّ في عنصريّته وتخصيص العداء ضدّ اليهوديّة واليهود، فكتابهم المقدّس محرّف، ودينهم محرّف وأحبارهم وحاخاماتهم فاسدون ودُعاة شرّ ومؤامرات، وأغنياؤهم مرابون، وفقراؤهم غدّارون وجواسيس، وعلماؤهم قاتلون يصنعون ويخترعون كلّ ما من مصلحته أن يدمّر الإنسان، ولم يكتشف أحدٌ هذه المؤامرة اليهوديّة غير العرب المسلمين المبتلين بهذه الوساوس.. هل كان لهذا العداء أسباباً قبل احتلال فلسطين؟ هل هي تشويهات اضطهاد المنتصر القوي للمهزوم الضعيف؟ هل كره العرب المسلمون الأقليّات الدينيّة والعرقيّة التي كانت تحتضنها؟ وما تصنعه الغيرة الإثنيّة والدينيّة حينما ترى الأكثريّةُ نجاح وتفوّق الأقليّات في تحقيق مناصب كبيرة في الدولة، ومناصب في الإنتاج ومراكز ضخمة في المال.
وضمن التصوّر العربيّ الإسلامي المتمثّل بفداء الإنسان بقربان شعب كاملٍ ونسله: فإنّ اليهود هم الخالدون في جهنّم إلى الأبد، أمّا باقي الأمم فهناك احتمالٌ أن يحصلون على رحمة الله.
كيف يمكنك اعتبار أنّ هذا النوع من التعليم يعتبر تعليماً مدنيّاً مقبولاً ضمن مفاهيم ومفردات عالم اليوم؛ كيف يمكن اعتباره تعليماً مدنيّاً إنسانيّاً ومعاييره لكلّ العلوم والتاريخ والثقافات تقاس بمرجعيّة تفاسير النصوص الدينيّة القديمة، وإن لم تكن في المناهج المتداولة، فحسبك «التطوّع..» الذي يقوم به المدرّس من عنده، ويسقط قناعاته ويحشرها في عقول النشء، ويؤوّل كلّ شيء لمصلحة تشويه الحياة وحشرها في كبسولة الدين (السحريّة) تحت تفسيراته الضيّقة الخياليّة وانتقاءاته التراثيّة المدروسة لمصلحة أفكاره الإقصائيّة.
(2)
قد تجدُ/ بل حتماً تجدُ أفراداً إسرائيليين ويهوداً ومؤسّسات يهوديّة تقفُ إلى جانب الحقوق الفلسطينية ويقفون ضدّ إسرائيل في وجودها وممارساتها وتوسّعاتها، لكنّك في المقابل لا تجدُ عربيّاً يجاهرُ بتبرئة اليهود -كشعب متعدّد الطوائف والإمكانات والأخلاق وكغيره من شعوب العالم- ممّا لُحقَ بهم من صفات سيّئة غير إنسانيّة، ولا يمكن اتّهام أيّ شعب في العالم بما يتّهم به اليهود.
مَن يُطالبُ بضرورة إنهاء حالة الفوبيايهوديّة وإنهاء القطيعة الأخلاقيّة (بمعنى أن ترى نفسك تملك الأخلاق الحميدة وغيرك تتلبّسه الأخلاق السيئة مهما فعل.. هل من عقل في هذا التصوّر؟). مَن يُطالب ويجاهر بضرورة التعامل مع اليهود كما بقيّة الإنسان، منهم السيئ ومنهم المحسن؛ هل تجدُ مؤسّسة عربيّة/إسلاميّة تدافعُ عن اليهود –بتعدّد طوائفهم وأعراقهم- وتسعى إلى وقف التحريض ضدّهم، وتسعى لوقف نبذهم باعتبارهم مخلوقات شيطانيّة على هيئة إنسان.
من يبدأ المصالحة بالمفهوم الإنساني الذي يبرّأ الأفراد ومؤسّساتهم مسؤوليّة صراع تاريخيّ-ديني؟ من يبدأ الاعتراف بأخطائه في حقّ الآخر؟ من يلغي الإقصاء والعنصريّة والأحاديّة من حساباته الدنيويّة؟
إذا كنتَ تعتقد أنّ الحياة الأخرى محصورة بإيمانك ومعتقدك أنتَ فقط، فابقِ هذه المعتقدات عند حدودها الشخصيّة والآخروية، ولا تسحبها معك في علاقات الدنيا وحساباتها وتعاملاتها، فالدنيا لا تقبل ولا تتحمّل الإقصاء الإنساني.
التخلّص من آثار العنصريّة وبقايا صراعات عرقيّة دينيّة التي يحملها خطابنا الثقافي والديني المؤسّساتي ضرورة وخطوة في طريق التعايش مع العالم، وسدّاً لثغرة كبرى يستغلّها التطرّف الغربي ولا يمكن الردّ عليها فعليّاً دون التبرّؤ منها، وتصدير خطاب ثقافي تعدّدي على المستوى الرسمي، خطاب يقبل العالم في تفسيرات نصوصه وفي ممارساته على الأرض.