محمد عبد الرزاق القشعمي
كنت أعتقد كغيري أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتب بحثه (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) بمناسبة زيارته للمملكة العربية السعودية عام 1374هـ / 1955م لرئاسة اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية في دورتها التاسعة والتي عقدت بمدينة جدة – 21-5-74 / 1-6-1374هـ / 15-1-1955 / 25-1-1955م. ونشر هذا البحث ضمن مواضيع أخرى في كتاب (ألوان)، ثم أضيف لمجموعات أخرى في المجلد السادس من الأعمال الكاملة للدكتور طه حسين، والذي نشرته الشركة العالمية للكتاب فيما بعد.
ولكني اطلعت مؤخراً وبالصدفة - ضمن مقتنيات مكتبة الملك فهد الوطنية - على كتيب يحمل العنوان ذاته (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) للدكتور طه حسين، الطبعة الأولى 1935م / 1354هـ من منشورات مكتب النشر العربي بدمشق وبسعر خمسة غروش سورية، من القطع الصغير وبـ 51 صفحة. مطبعة ابن زيدون: دمشق، وقد قدم للبحث بحديث للناشر قال فيه: «نشرت ترجمة هذا البحث في مجلة (open court) التي تصدر بشيكاغوا بأمريكا.
وقد رأى فيه الشيخ خليل الرواف خير صورة تقدم لقراء لغة الضاد عن الحياة الأدبية في جزيرة العرب، ولاسيما وأن الذين بحثوا في الحركة الوهابية أهملوا أثرها في الحياة العقلية والأدبية، وأن الدكتور طه حسين قد عالج كل هذا في بحثه الدقيق - الذي نتقدم به إلى القراء - بتفكيره العميق وأسلوبه الرشيق».
وفي ظهر الصفحة الأولى كتب الناشر أيضاً: «لذلك استأذنَ حضرته الدكتور طه حسين في نشر هذا البحث، فتفضل - حفظه الله ورعاه - بالإذن.
وقد عهد الشيخ خليل الرواف إلى مكتبنا بالإشراف على طبعه ونشره؛ فكان لنا بذلك من شرف الموضوع، وشرف المؤلف، وشرف صاحب الفكرة ما نسجله في أول صفحة من صفحات هذه الرسالة». مكتب النشر العربي بدمشق.
ولعلنا نلقي نظرة سريعة على هذا الموضوع أو على الأقل إطلالة قصيرة على بعض جوانبه لعل من لم يسبق له أن اطلع عليه أن يعود له، ففيه إضاءات ولمحات موجزة تغني عن مطولات.
فبعد أن استعرض - طه حسين - وضع الجزيرة العربية قبل الإسلام، وإنها متصلة بالدول الأجنبية المجاورة لها، فكانت أطرافها من جهة الشام متصلة بدولة البيزنطيين، ونشأ عن هذا الاتصال أن نظمت علاقات سياسية بين أمراء الغسانيين وقياصرة قسطنطينية، أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث.. وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس.
وقال: تغيرت أسماء الدول الحامية لأطراف الجزيرة أو الطامعة فيها... فالدول الأجنبية تحمي أطراف جزيرة العرب، إما خوفاً من البدو، وإما رغبة في بسط النفوذ التجاري..
أما قلب الجزيرة وداخليتها فلم يتغير كذلك إلا قليلاً، بادية مستقلة استقلالاً تاماً تظهر الخضوع والطاعة لأمراء الحضر، رغبة أو رهبة أو خوفاً وطمعاً.
فالدين الرسمي لهذه البلاد هو الإسلام، واللغة الرسمية لهذه البلاد هي لغة القرآن، والحضارة الرسمية في هذه البلاد هي الحضارة الإسلامية القديمة..
يستطيع الباحث عن الآداب في البلاد العربية أن يتحدث عنها في مقال واحد كأنه يتحدث عن شعب واحد.. ولكن الكلام عن الأدب في جزيرة العرب يحتاج إلى أن تحل مسألة عزلته قبل الشروع فيه، ذلك أن بلاد العرب هي مهد الأدب القديم، وفي شماليها ووسطها ظهر الشعر الجاهلي، وفي الحجاز ظهر القرآن، ومن الحجاز ونجد وتهامة انتشرت اللغة العربية وما كانت تحمل من أدب ودين إلى بلاد الشرق الأدنى، فغمرت أكثره وظلت موطناً للأدب الخالص طول القرن الأول للهجرة، فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعاً من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد.
وتسأل عن سبب العزلة مع أن هذه البلاد كانت مهد اللغة العربية والأدب العربي.. وقال إن الدولة الأموية عربية خالصة.. وليس غريباً أن تكون الجزيرة العربية أشد بلاد الإسلام امتيازاً في ذلك الوقت.. كانت موطن الرؤوس المفكرة وموطن الأيدي العاملة في إقامة الدولة، كانت حاكمة وكان غيرها من البلاد محكوماً، فلما قامت الدولة العباسية تغير كل شيء لأن هذه الدولة قامت على أكتاف الفرس وتدبيرهم، فقامت خراسان مقام جزيرة العرب وأصبحت هي التي تمد الدولة بالرؤوس المفكرة، وبالوزراء ورجال القصر وبالأيدي العاملة بالجيش وعمال الدواوين، وقد أقصي العرب شيئاً فشيئاً عن الجيش والدواوين.. وأن جزيرة العرب لم تكن من الغنى والثروة بحيث تستطيع أن تعيش لحسابها وتحتفظ بحظها من الحياة الأدبية الراقية، ومن الحضارة التي جلبت إليها أيام الأمويين.. لهذا كله انسحبت الجزيرة من الحياة الإسلامية العامة، فأما باديتها فعادت إلى جاهليتها قليلاً قليلاً، وأما حواضرها فاحتفظت بشيء ضئيل تقليدي من الحضارة والأدب والعلم. ولو لا أن البلاد المقدسة في الجزيرة العربية، وأن المسلمين يحجون إلى مكة والمدينة في كل عام، وأن لليمن أهمية خاصة في التجارة أثناء القرون الوسطى، لأهملت هذه البلاد إهمالاً تأماً ولنسيها تاريخ المسلمين.