سهام القحطاني
كلما زادت مدة فرض واقع ما على الآخرين أصبح أمرًا حقيقيًا، وبالتقادم يتحول الأمر الواقع إلى ثقافة وتاريخ وعقيدة.
وهذه السياسة هي التي صنعت «الهوية الإسرائيلية» اليوم بيننا، سياسة «ثقافة الأمر بالواقع».
لقد راهنت إسرائيل منذ البدء على «ثقافة الأمر الواقع» من أجل التعايش والتطبيع مع العرب ثقافة ماتزال تمارسها من أكثر من ستين سنة دون كلل أو ملل ووفق تخطيط يضمن لها استمرار تلك الثقافة، ويمكن أن نحدد ميكانيزمات هذه الاستمرارية من خلال الإطار التاريخي، الإطار العقدي، الإطار السياسي، والإطار الإجرائي.
وذلك التأطير التربيعي هو الذي صنع «الهوية الإسرائيلية».
إن التاريخ يحقق المصداقية لأي ادعاء، وأي ادعاء دون جذر تاريخي لا قيمة له في التأثر والتأثير.
قد يرى البعض أن اليهود لا يحتاجون إلى خلق جذر تاريخي لهويتهم الوجودية لأنها بالفعل محققة المصداقية؛ فهم اتباع إحدى الديانات السماوية ومؤرخة في القرآن الكريم، وهذا الأمر صحيح لكن ليس مقصدي هنا بتوجيد الجذر التاريخي العرق اليهودي بل «الهوية الإسرائلية» تلك الهوية التي أسست في ضوئها دولة إسرائيل في فلسطين.
والتاريخ لا يعتمد على الحقائق والمعلومات والأحداث، وبذلك يمكن «صناعته» من خلال صناعة إجراءات الواقعي، وأول تلك الإجراءات هي «المكان» فلا هوية بلا جغرافيا أو مكان.
وارتباط الجغرافيا بصناعة التاريخ الخاص أول ما أدركه الصناع الأوائل للهوية الإسرائيلية.
لذلك كان لا بد من مكان ليحتضن تلك الهوية، وكانت فلسطين هي الجغرافيا الأنسب لإنباتها ورعرعتها، لأسباب أبرزها أنها تضم كثيرًا من ذكريات تاريخ اليهود، إضافة إلى أن فلسطين شهدت مملكة يهودية عظيمة وهي مملكة «النبي سليمان» وهي في التراث اليهودي رمز على قوة ووحدة اليهود السياسية قديمًا، ولذلك يجب ألا ينطفئ بريق ذلك الرمز وهو ما يفسر لنا تمسك الإسرائيليون بادعاء وجود «هيكل سليمان»، وهذا النموذج الكامل للقوة تحول إلى غاية «إحيائية» لدعم الهوية الإسرائيلية، فإعادة إحياء رمزية «الهيكل» يحقق لها الأمان التاريخي وحماية لصنّاع الهوية الإسرائيلية من الاتهام باحتلال فلسطين. فكثير ما يغلب الإيمان بالواقعي الإيمان التاريخي إذا تخلى عنه الواقعي، وقد يعترض آخر على هكذا تصور باعتبار أن المسألة ها هنا لا تتعلق بغلبة الواقعي على التاريخي إنما حق «الحق» أن يغلب بالبداهة على الباطل.
إن فكرة الحق والباطل فكرة مرتبطة «بثقافة الواقعي»؛ فكلما نجحت في تصنيع ظرفيات تخلق واقعًا حقيقيًا بمفهوم التوافق مع المنطق والتحشيد تمكنت من تحويل «الباطل» إلى «حق».
وكلما فقد «الحق» مسانداته الواقعية أصبح في أدنى درجاته باطلاً وفي أعلى درجاته ماضيًا.
لأن قيمة الحجة في تأثيرها لا في حقيقتها. وهو ما يعيدنا إلى أن «الواقعي» هو الذي يتحكم في تحديد دوائر الصدق والحق؛ لأنه قوة إجرائية في ذاته، في حين مهما عظمت كثافة الوجدانيات لا يمكن أن تحقق قوة إجرائية تعادل الواقعي أو تتنافس معه. وهنا يبرز دور العقيدة المتحركة، فالهوية الإسرائيلية أسست في ضوء «الصهيونية» وهي كعقيدة سياسية يهودية تدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين لمحاربة العداء للسامية، كما أن فلسطين كما يرى هرتزل تتمتع بمكانة دينية واستراتيجية واقتصادية، ولا شك أن المسوغين الأخيرين للاختيار يحملان نية السبق والإصرار في احتلال فلسطين وليست «عودة الأرض الضآلة».
مرّت الحركة الصهيونية بأربع مراحل هي؛ التأسيس التي بدأت منذ القرن السابع عشر والتخطيط والتنفيذ والتمثيل وهي مراحل تمّت من خلال عديد من الإجراءات التي ضمنت لها «خلق وجودها الواقعي».
واعتمدت تلك الإجراءات على عدة وسائل منها؛ المؤتمرات التي كانت تدعو إلى نشر ثقافة الصهيونية بين اليهود وغير اليهود وهنا يأتي دور التأثير الفكري المرئي من خلال الإعلام والسينما، وهذا ما يفسر لنا ريادة اليهود في صناعة الإعلام والسينما، إضافة إلى تشكيل قوة اقتصادية وفكرية داعمة لحلم الصهيونية لتمثل ورقة ضغط على قرارات الدول الكبرى أو ما يسمى «باللوبي الصهيوني» ثم الخدعة التسللية من خلال الهجرة الذي تبعه التوجيد المنظم من خلال الاستيطان وبمعية «الدبلوماسية الاستعمارية» تلك الخطوات بوسائلها نجحت أخيرًا في خلق التمثيل الواقعي للهوية الإسرائيلية التي بدأت عام 1948م بإنشاء دولة إسرائيل في فلسطين لتُصبح واقعًا مرًا بالرغم من أنف العرب.