ترتبك كلماتي كثيرا هذه الأيام فالصخب من حولي وانتشار صغار العائلة في أجواء البيت الكبير كذلك تسلط هذا القيظ الخانق الذي لايخفف من جرمه إلا جمال الحضور الأبوي والأمومي؛ ولا أتمكن من الكتابة بطلاقة مفرطة.
في غالب الأمر فالعزلة صديقة للكتابة.كما أنها نديمة لأهلها.
وفي غمرة ذلك كله فإن أشد مايحيرني حماس أمي اليومي للقراءة، لأتعلم كيف تكافح العين الجهل والسير على غير هدى في هذا العالم المتقلب المفاجئ بين اللحظة وأختها.
إنها تسرد لي يوميا مع التاسعة أخبار العالم. ساعة أو نصف ربما وهي تفسرانتكاس الأحوال العالمية وتغير الأحداث الاجتماعية من خلال الجرائد الورقية اليومية التي تقرؤها في صمت فلاتدع عنوانا سياسيا او اجتماعيا إلا وقرأته.
لتستمع بعدها إلى المذياع لبعض الوقت ثم تغادره الى السناب شات لتطلع على أخبار العائلة في الغالب من خلال مقاطع الفيديو وبعض المفضلات في القائمة التي يبعث بها المستخدمون من الأبناء وأفراد العائلة وذوي القربى.
هذا التآخي بين أمي والتقنية متنوع الاستخدام، فمثلا لابد أن تتحادث مع سيري الناطق في الآيفون للاتصال إذا كان الرقم جديدا ولم تحفظه بعد.
إن أمي شخصية مذهلة فبالرغم من كونها في السبعين من العمر فإنه لايفوتها شأن أسري ولا وطني ولاعالمي نشر في الصحافة إلا واطلعت عليه، ليس لأنها فضولية بل لأنها شخصية ذات إرادة خلاقة. تثير من يراها برغم تعبها من الروماتيزم والدوالي المزمنين وبرغم معاناتها الصحية في الركبتين فلم يمنعها ذلك من مقاومة التعب الشديد الذي تئن منه يوميا حيث أسمعها ليلا - فأنا أنام في غرفتها منذ شهر تقريبا- وأصحو على صوتها وأنا أبتهل إلى الله أن يأخذ من عافيتي ويمنحها الصحة والعافية، تركض في عربتها متابعة شؤون البيت لا ترتضي أن تطهو الخادمة بالنيابة عنها بل تطهو الغداء يوميا وتجهز الإفطار الصباحي لأخي ووالدي يوميا.
تفيض المعاني بحرا بل محيطا بل سماوات ممدودة كلما استرسلت في الكتابة عن تلك السيدة التي تستحق كلمة سيدة المكان والزمان والعائلة كلها:أمي..
ماكنه العالم دون أمهاتنا ؟. سؤال يتكرر في تفاصيل البيت وتتمثله الغرف وباحة البيت والممرات والسكون والضجيج والليل والنهار ، الأوقات فجرها ومغربها والظهيرة بينهما تستظل بالأمهات ويظل الآباء بما فيهم من جماليات مجرد حقائب تعتني بما تحتويه وتحتفظ بما تشاء من أسرار شخصية مادية أحيانا. والأبناء مفاتيح دون أقفال أو كلمات سرية !.
تتنزه الهموم في كل سقف يخشى أن تهجره سماء تظللها الأمومة والأبوة. يقول شيطان خبيث في النوايا التي نطرد سوءاتها: إننا مجرد قوائم مؤجلة للرعاية والعناية بشيكات معنوية مؤجلة حسب الاستخدام، وأكثر من يستغلنا إخوة يفكرون بذواتهم وحسب .. إخوة إناثا كن أو ذكورا .فالاستغلال لايعترف بالنوع ولا بالعمر، يعترف وحسب بحاجاته ورغباته ومقاصده الشخصية البحتة.
أيتها الكتابة إن لم تكتبي مديحك للوالدين فلست أنا إنما أنت أولئك الأبناء الذين يتهربون من تربية عواطفهم على الطهر من العقوق ويقللون من قيمة الصبر في تهذيب ذواتهم وتخليص أعماقهم من الدنايا والاستغراق في خديعة الماديات.
- هدى الدغفق