تحدثت في المقالة السابقة عن قسم اللغة العربية في جامعة الملك عبدالعزيز والحرب التي كانت تدار فيه على كل منتم للحداثة من الأساتذة أو الطلاب، ورويت ما حدث لي شخصيا إثر نشر مقالة لي في ملحق الأربعاء.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن أحد الاساتذة (رحمه الله وغفر له) مارس تسلطه علي عاما كاملا كان يهاجمني فيه ( على صغر شأني) في كل محاضرة هجوما لاذعا وساخرا ، ويعطيني أسوأ الدرجات وهي الدرجة الكافية فقط لتجاوز المادة!! بل وصل الأمر في أحد الأيام أن استغل هذا الاستاذ تأخري بضع دقائق عن إحدى المحاضرات معتقدا أنني لن أحضر وطلب من الطلاب إخراج أوراق بيضاء ليختبرهم اختبارا دوريا، وحين حضرت قام بإلغاء الاختبار!!
لا أقول هذا الكلام للحديث عن النفس بقدر إعطاء نموذج لما كان يلقاه الطلاب المخالفون في توجههم لهؤلاء الأساتذة. وأجزم أن ما تعرضت له تعرض له أو لبعض منه بعض زملائي ممن كان يُعتقد أنهم ذوو ميول حداثية.
شعراء الحداثة:
كان شعراء الحداثة (شعراء التفعيلة) المرحوم محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وعلي الدميني ومحمد زايد الألمعي ومحمد الحربي هم أبرز نجوم تلك المرحلة حيث كانت الصحف تنشر إنتاجاتهم في ملاحقها الأدبية وكانوا يشاركون في الأمسيات الشعرية والمهرجات الثقافية داخل المملكة وخارجها ( مهرجان المربد في العراق مثلا) ويجدون حفاوة وإعجابا من تلك الفعاليات الثقافية ومن الأدباء العرب، ونشرت بعض الصحف العربية ملفات عنهم متضمنة بعض إنتاجهم .وكانوا يشكلون مفاجأة سارة وغير منتظرة لنظرائهم في العالم العربي.
كان الثبيتي قد أصدر ديوان (التضاريس) الذي يمثل قمة إبداعه وعنفوانه الشعري في ذلك الوقت بما تميزت به قصائده من لغة خاصة تعبق برائحة التراث وطاقة نبوئية خاصة كقصيدة التضاريس:
جئتُ عرافاً لهذا الرملِ
استقصي احتمالات السوادْ
جئت ابتاع اساطيرَ
ووقتاً ورماد
وتغريبة القوافل والمطر :
أدِرْ مهج الصبحِ
صبَّ لنا وطنًا في الكؤوسْ
يدير الرؤوسْ
وغيرها، وكان عبدالله الصيخان أيضا بلغته السهلة والجميلة ينشر قصائده أيضا ويلقيها في الأمسيات الشعرية ومنها : ومات بشير عريسا، وفضة تتعلم الرسم وقصيدته الأشهر والأجمل (كما يراها كثيرون ) فاطمة :
كأنّ النساءْ خرجن من الماءْ
وفاطمةٌ وحدها خرجتْ من بَرَدْ
والتي أصدرها وقصائد أخرى لاحقا في ديوان (هواجس في طقس الوطن)، وكذلك كان علي الدميني ( رياح الموقع ) ومحمد زايد الألمعي ( من أشهر قصائده أنتم ووحدي ، ومرثية الخونة وحين لا تشبهين النساء، ورغم تميز محمد الشعري وتأسيسه الفكري الجيد إلا أنه لم يصدر ديوانا يجمع قصائده المتناثرة حتى الآن )!! ومحمد الحربي(مالم تقله الحرب ) وآخرون، وبالطبع فقد سبق هؤلاء جميعا الشاعر سعد الحميدين في كتابة قصيدة التفعيلة ومحمد العلي وقصيدته الأجمل والأشهر (لا ماء في الماء)، في حين يُعد محمد حسن عواد وقبل ذلك بوقت طويل رائد التغيير الشعري إلى قصيدة الشعر الحر.
لكن هذا النشاط ظل نخبويا وتلك الأمسيات لم يكن يحضرها الكثير من الحضور حتى دخلت الصحوة خصما للحداثة فبدأ الحضور يزداد لأسباب لا علاقة لها بالأدب أو الثقافة.
كان هناك أيضا شعراء قصيدة النثر وأبرزهم محمد الدميني ومحمد عبيد الحربي وأحمد الملا وإبراهيم الحسين وقبلهم جميعا فوزية أبو خالد التي نشرت ديوانها الأول ( إلى متى يختطفونك ليلة العرس) في وقت مبكر جدا (19975م) ، ولاأزال أتذكر من تلك المرحلة مشاركة فوزية أبو خالد في أمسية شعرية شهيرة في النادي الأدبي بجدة حين كان يقيم فعالياته في فندق العطاس ، كان أبطالها رتل من شباب الصحوة جاءوا ليخربوا الأمسية التي كانت تقام لثلاث شاعرات يتواجدن في القاعة الأخرى المخصصة للنساء، ويصل إلينا صوتهن عبر الدائرة التلفزيونية وهن إضافة إلى فوزية ابو خالد ثريا العريض وأشجان هندي. مارس هؤلاء المحتسبون الكثير من الصراخ والعنف وشتموا الشاعرات بألفاظ من قبيل (عاهرات) وسحبوا أبا مدين من على منبر النادي لأنه لم يعطِ أحدهم الفرصة للحديث خوفا من تفاقم الإشكالات. ولازالت صورة الناقد فايز أبابا تتراءى أمامي وهو يدخل في نقاش حاد مع بعض أولئك الشباب، والمؤلف والناقد المبدع عابد خازندار رحمه الله متكأ بظهره على أحد أعمدة القاعة وهو يبين لبعض هؤلاء الشباب الذين تجمعوا حوله وبهدوئه المعتاد خطأ ما يفعلون.
لاحقا صدر أمر رئيس رعاية الشباب وقت ذاك الأمير فيصل بن فهد بإقالة عبدالفتاح أبو مدين الذي عوقب بدلا من مثيري الشغب والفوضى وهوما كان جزءا من سياسة تلك الفترة !!
- محمد الدخيل