علي الخزيم
قال: ما بال العصافير لا تهرب من شِدَّة الحرِّ والهجير إلى موطن ألطف هواءً وأبرد ماءً؟ وهي التي لا تحتاج إلى حجوزات قد تُلغى، ولا إلى تأشيرات وحمل حقائب! وقد يكون الجواب: بأنها بأحلامها الصغيرة أرجح رأياً من أولي الألباب، وأوفى عهداً من (بعض) ذوي النهى، وتعلّمَت بماضي زمانها حكمة تقول: (من ترك عُشَّه جاء من يقشّه)، وأنها لن تجني من هروبها المؤقت سوى ضياع فرص وخسارة بالوقت والزاد، إذ أن متعتها هناك مؤقتة ومحفوفة بالازدراء وبعض المخاطر بحسب القاعدة التي تقول إن صدقت: من خرج من داره قلَّ مقداره، وبحسب معرفتي بأكثر العصافير فإنها أكبر وأعقل من أن تخسر وقتها وأعشاشها من أجل رحلة غير مضمونة بكلِّ جوانبها، ثم إن هذه الطيور اللطيفة من أوفى الكائنات لأوطانها كأنها أنتم، ألم تسمع أن مصطفى صادق الرافعي قد قال بهذا المعنى، مع الاعتذار عن كلمةٍ قد لا تروق لكم:
(ومن تؤوِهِ دارٌ فيجحدُ فضلها
يكن حيواناً فوقه كل أعجمِ
ألم ترَ أنَّ الطيرَ إن جاءَ عشهُ
فآواهُ في أكنافِهِ يترنَّم).
ومن أقسى أصناف الظلم ذاك الذي تناله الأوطان من أهلها، ولنعد للرافعي وماذا قال عنه:
(ومن يظلمِ الأوطان أو ينسَ حقَّها
تجبه فنون الحادثات بأظلم
وما يرفع الأوطانَ إلا رجالها
وهل يترقى الناسُ إلا بسلم).
ما أعظم هذه المعاني! فليتأملها كلُّ من سولت له نفسه أن يتأوَّه أو يتأفَّف من شدة الحر والهجير ظهراً، هي الأوطان ككائن يحضننا ويرأف بنا، أَفَإذَا غشته هبَّة من السموم صددنا عنه، وجحدنا فضله علينا؟ يقول ابن الرومي:
(إِذا ذَكَروا أوطانهم ذكرّتهمُ
عهودَ الصِّبا فيها فَحنُّوا لذاكا
فقد أَلِفَتْهُ النفس حتى كأنه
لها جسدٌ إن بان غودرتُ هالكا).
ومن يتضجر من أيام حارة الطقس في بلده ثم يتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي رسائل ومقاطع يزعم أنها من باب التندر والطرافة على حساب الوطن الحبيب فهو - في نظري - يمارس شيئاً من العقوق بحق الديار والأوطان الغالية علينا في كل حين وحال، فهي ليست معروضة للمساومة والمواسم، هي الأم الحنون والحضن الرؤوم، تعظيمها وتشريفها حق واجب على الجميع لا مِنّّة فيه، ومن يرى غير ذلك فاسمحوا لي بأن أتمثَّل بشأنه هذين البيتين لشاعر يقال له الكاظمي:
(ومن كانَ في أوطانهِ حامياً لها
فذكراهُ مسكٌ في الأنامِ وعنبرُ
ومن لم يكنْ من دونِ أوطانهِ حمى
فذاك جبانٌ بل أَخَسُّ وأحقرُ).
لكني أميل إلى أن من يتندرون على أوضاعهم بفصل القيض إنما هم ينساقون وراء البحث عن الطرافة والابتسامة بحسن نية، ولا يساورني شك بطيب ولاء أبناء السعودية، وفيهم قال الشاعر محمد باعطب:
(لا ينْتمي لَكَ من يَخونُ ولاءَه
إنَّ الولاءَ شهادةُ الأبطالِ
يا قِبْلةَ التاريخِ يا بلَدَ الهُدى
أقسمتُ أنَّك مضربُ الأمثال).