د.محمد بن سعد الشويعر
واستكمالاً لما تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي، من مقالنا «حكمة الله في خلقه» توقفنا عند مقياس العقل عند الإِنسان، وذلك أن كلمة العقل، قد جاءت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة لأهمية العقل في ميزان الشريعة: القرآن الكريم والسنة المطهرة وفي هذا توجيه كريم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ أن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر.
فهذا أمر إلزامي، ولا مجال لتردد العقل فيه. ومن لم يُحكّم العقل أو يزنُه في ميزانه، فهو كالبهيمة التي تساق لموطن هلاكها: {إِنْ هُمْ إلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (44) سورة الفرقان. وميزان الأمور كلها بالعقل.
وهذه دلالة، على أن الإنسان المكلف بشرع الله، قد رفع الله مكانته وفضله على كثير مما خلق سبحانه، فهو في منزلة التكريم والتفضيل، وهذا العقل الذي حُرمت منه البهائم والعجماوات كلها. فكان الإنسان بما منحه الله من عقل، هو المكلف بالتشريع، ويبحث عن المعرفة، ويستقيها من مصادرها، ويعمل بما عَلِمَ. إِذ لم نسمع أن حيوانًا قد صدر له تكليف، أو خُوطب بأمر أو نهي: بالجزاء أو العقاب.
وقد يأتي من يقول: عن بعض العجماوات: كالكلاب والأسود وغيرها، ولكن هذه في الأعم، ترجع لما خُلقت له، فقد يفترس الأسد مدربه إذا جاع أو هاج وهكذا البقيّة والمثل يقول: من أصله كلب نبح. وللذئب قصص عند العرب، فالمرأة التي ربت جرو ذئب، فلما كبر عاد إلى طبعه فأكل شاتها وفجع قلبها، وتمثلت ببيت من الشعر دلالة بأن كل شيء يعود لأصله الغريزي مع فقدان العقل، وقد قالت معبّرة عن غلطتها في تربيتها لجروُ الذئب.
أكلتَ شويهتي وفجعت قلبي
ومن أدراك أن أباك ذيب
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن بعضها يقتص من بعض ثم يقال: كوني ترابًا، وإن من بني آدم من نَزَلَ بنفسه إلى منزلة عطّل فيها عقله، فانحدر بسبب عصيان أوامر الله لأقل من درجة الإنسان الذي أكرمه الله بالعقل، إذا كان سويًا في خِلقته، فالواجب عليه أن ينقذ نفسه من عقاب الله في {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (88) - (89) سورة الشعراء. أما من سُلِبَ العقل فلا تكليف.
إن مقياس الإدراك والحكمة البالغة عند البشر، تختلف عند الله سبحانه؛ لأن الله؛ هو خالق البشر ومقلّب قلوبهم، ألم يقل سبحانه عن اليوم الآخر الذي أُخفي عن الخلق متى هو: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بعيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (6) - (7) سورة المعارج.
ألم يعترض المشركون على توجيه الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: (لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم). فرد الله عليهم جل وعلا بحكمته البالغة {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (32) سورة الزخرف.
وهذا التفضيل بالعقل وحسن استعماله واعترض أميّة بن أبي الصلت، حسدًا، وكان في الجاهلية من أعبد الناس، مثلما غوى إبليس آدم؛ لأن الله فضله عليه، واعتراضه على ربه بقوله: أنا خير منه خلقته من طين، وأنا خلقتني من نار السموم، فعصى ربه سبحانه.
بهذا المفهوم فكان من المبعدين، فلله الحكمة البالغة والشواهد كثيرة، لكنني أورد شاهدًا محسوسًا: جبلة بن الأيهم الغسّاني الذي تعاظم في نفسه، وهو يطوف بالكعبة، ولم يَرَ حقًا لأحد من التكبر، فلطم رجلاً في المطاف لأنه يجر إزاره خُيلاء، فأراد عمر بن الخطاب أن ينصف الملطوم بالقصاص لطمة بلطمة، فارتد عن الإسلام، وطلبه ملك الروم فأكرمه ورفع مكانته، لكنه خسر آخرته، وكعب بن مالك رضي الله عنه صَبَرَ وصَدَقَ مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت العاقبة حميدة بأن رضي الله عنه وأنزل توبته سبحانه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، كما جاء ذلك في آخر سورة التوبة، والفارق بين الاستجابة والعصيان حركة من القلب إما بالتعقل أو الانحراف.
فقلب ابن آدم - كما جاء في الحديث- بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء، وكذلك يجب على كل إنسان أن يدعو بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). لأن القلب هو موطن التعقل والاسترشاد في الإِنسان، فإذا استقام استقامت الأعضاء كلها، وإذا انحرف انحرفت كلها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب).
نسأل الله السلامة وحسن الخاتمة..