زكية إبراهيم الحجي
المستقبل هو ما نصنع.. وإيجابياته وسلبياته رهين بهذا الصنع.. وحضور سؤال المستقبل في أية ثقافة هو دليل حيويتها وبقدر حضوره في تكوينها الفكري تتحدد قابليتها للتطور وقدرتها على التقدم.. إذن نحو مستقبلنا من نحن؟ سؤال لا يهدف إلى التنبؤ بل هو باب لفتح مجالات المستقبل من خلال تحليلات افتراضية للإجابة على كم من تساؤلات صيغتها تبدأ ما بين {ماذا..لو}.
لا شك أن الأمم القوية هي التي تدرك ما يحيط بها من تغيرات عالمية وتعي ما يزخر به العالم من تناقضات وصراعات.. هذه الأمم تسعى لصنع مستقبلها أو على الأقل تسعى للمشاركة بفعالية في صنعه.. أما الأمم الغافلة عما يجري حولها التي تترك مستقبلها لأطماع الآخرين أو للمصادفات فإنها تبقى في آخر الركب لأنها لا تمتلك خريطة واضحة المعالم والتضاريس لهذا العالم سريع التغير فعند ما لا تبادر الأمة إلى صنع مستقبلها ينشأ الفراغ.. وعندما ينشأ الفراغ يسارع أصحاب المصالح لملئ هذا الفراغ ومن ثم فإنهم يصنعون لتلك الأمة مستقبلاً متوافقاً مع مصالحهم وأهدافهم.
إن المتتبع للمسار التاريخي لفكر وثقافة العربي يجد جُلَّ محاورها تدور حول جدليات أرَّقت تاريخه وأقحمته في مأزق ثنائيات متضاربة من قبيل جدلية الدين والسياسة.. جدلية السلطة والمجتمع.. جدلية الثقافة والتاريخ.. جدلية العرب والعالم.. جدلية العنصرية والطائفية.. جدلية خداع أنفسنا بشعار نتغنى به {اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية} وهي في الحقيقة {الاختلاف عند العرب يفسد للود قضية} جملة جدليات لإشكاليات ثابتة تظل تدور في فلكها المجتمعات العربية ومع ذلك تتساءل لماذا تقدم الغرب ونحن نتحرك في حدود الهامش.. لماذا مفاعيل التغيير والتنمية البشرية والتطور العلمي والمعرفي.. يسير بخطى سريعة في الغرب ومعظم دول شرق آسيا ونحن نتصارع حول قضايا وإشكاليات نكررها وندور حولها في حلقة مفرغة.. أين موقعنا في دروب الحركة والتقدم الرقمي والمعرفي.. والتطور العلمي والصناعي أين السؤال العربي عن المستقبل ودراساته واستشرافه.. أين مصانع الأفكار المساندة لبحث ومناقشة القضايا التي تعاني منها المجتمعات كالبطالة والفقر وتدني الرعاية الصحية وغيرها وبالتالي معالجتها واتخاذ قرارات حاسمة لتنفيذها على أرض الواقع.. والأهم من ذلك أين معاهد البحث المستقبلي وتقنياته بغية الارتقاء بقدرات الكوادر البشرية العاملة.. وبتعدد واختلاف الأسئلة تتشعب الإجابات لكنها في نهاية الأمر تصب وتنصهر في بوتقة واحدة خلاصتها تكمن في عبارة واحدة وهي أننا نفتقد {الدراسات المستقبلية وبحوث استشراف المستقبل وحتى إن وُجدت فإما أن تكون محصلة عوامل عشوائية متضاربة لا تخضع لاعتبارات من صنع العقل والتدبير والمصلحة أو أنها مجرد رسم لتخيلات مستقبلية يُرضي بها الإنسان نزعته التواقة إلى كشف المجهول أو أنها تخضع لقوى خارجية لا يهمها من مستقبل هذه الأمة إلا ما يخدم مصالحها سواء كانت هذه المصالح متوافقة مع مصالح المجتمعات العربية أم لم تكن.
إن الاهتمام بالمستقبل في فكر وثقافة المجتمع العربي ليس مهمة أفراد أو نخب معينة بل يتجاوز هذه الحدود والفضاءات ليشمل مؤسسات رسمية وغير رسمية متخصصة وغير متخصصة توحي جميعها حتى ولو اختلفت الرؤى بأن هناك انفتاحاً في مجال استشراف المستقبل وأن العقلية المستقبلية هي العقلية المطلوبة التي تنظر إلى المستقبل بتشخيص دقيق للمراحل والخطوات مستندة على خطط وبرامج محددة زمنياً ومبنية على حقائق كمية ومضامين علمية.
إن غاية حضور سؤال الدراسة المستقبلية في أي ثقافة هو توفير إطار زمني طويل المدى لما يُتخذ اليوم من قرارات ومن ثم العمل ليس على هدى الماضي بل وفق نظرة طويلة المدى فهذا أمر تمليه الأحداث والاضطرابات التي تشهدها اليوم الساحة العربية.