علي الصراف
الإرهاب موجود في كل مكان، وربما على مر تاريخ كل الصراعات، في كل المجتمعات. مع ذلك، فإن التمييز بين إرهاب وآخر يظل أمراً ضروريا لفهمه.
كل الإرهاب مُدان، ويكاد من المستحيل المفاضلة بين إرهاب وآخر. ولكن جمعه في حزمة واحدة، يجعل مكافحته أصعب، لأنها تتجاهل الأسس التي يستمد منها دوافعه أو مبرراته.
هل هناك فرق بين إرهاب «تنظيم القاعدة»، وإرهاب «تنظيم داعش»؟
الفرق جذري، الى درجة أن المرء لن يتمكن من رؤية أي شيء بوضوح ما لم ير أن هاتين المجموعتين الارهابيتين، حتى وإن كانت تستندان إلى أسس منهجية واحدة، إلا أن لكل منهما دافعا مختلفا.
«القاعدة» ولدت من رحم الصراع الدولي بين الدولتين العظميين. ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تتخذ لنفسها أهدافا «دولية» عريضة، يتوجه جلها إلى الخارج: إسرائيل والولايات المتحدة، بالدرجة الأولى.
«داعش» ولدت من رحم صراع داخلي، ذي طبيعة أهلية. ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تتخذ لنفسها أهدافا «داخلية» تتوجه جلها الى الطرف الداخلي الذي أصبح، بطريقة ما، ولسبب ما، يحتل مكانة «العدو».
لقد نشأ تنظيم داعش من رحم مشروع طائفي أملته إيران على العراق، وتواطأت معه الولايات المتحدة. هذه هي الحقيقة المؤسِسة الأولى التي لا يمكن لعاقل أن يتجاهلها.
قبل أن تظهر داعش بسنوات طويلة، خاض أزلام طهران في العراق حربا طائفية مكشوفة ضد نصف المجتمع العراقي، وأجبروه على العيش تحت كل صنف محتمل من صنوف التهميش والتجريم والتشريد والاعتقالات الوحشية وأعمال التعذيب.
وبينما كانت مليشيات طهران تستأثر بالمال، نهبا وفسادا، فإنها استأثرت بمراكز النفوذ وتقاسمت السلطات تمزيقا واحترابا.
ولقد تم كل ذلك، تحت شعارات ورايات طائفية قميئة، ولكنه تم على مرأى ومسمع الإدارة الامريكية أيضا. لا بل أن بيئة «الحب السري» التي ظلت تجمع بين واشنطن وطهران (والتي انتجت تاليا اتفاقا سريا حول الملف النووي، كنوع من التصريح الخجول عن ذلك الحب) سمحت بأن يتحول التواطؤ الى مشاركة عملية في أعمال القمع والتجريم والتهميش الجماعي لملايين العراقيين. وليست فظائع سجن أبو غريب إلا جزء بسيط من جبل المظالم الذي وقع على أكتاف كتلة بشرية بكاملها.
أستطيع القول، بمقدار عال من الثقة بالتاريخ، إن السنة الذين هيمنوا على حكم الدولة العراقية منذ نشأتها، بحكم غلبتهم العددية والمدينية والتعليمية، كانوا عاجزين من الناحية الموضوعية عن أن يكونوا طائفيين. أولا، لأنهم بدأوا حكمهم للعراق في ظل نزاع مع الدولة العثمانية حول ولاية الموصل، وهي القوة السنية الوحيدة في المنطقة التي كان يجب أن يتحالفوا معها، لو كانوا طائفيين. وثانيا، لأنهم كانوا يدركون أن أي ميول ذات طبيعة طائفية كانت ستؤدي الى تدمير ذلك الحكم من الأساس، لأن متطرفي الطرف الآخر سيتخذون من ذلك ذريعة للتحالف مع إيران، وهذا ما لم يرغب به أحد. وثالثا، لأن غلبتهم العددية ما كان بوسعها أن تتحول الى «قوة ذاتية» بسبب التنوع الجغرافي والعرقي لهذه «القوة» أصلا. فعدا عن أن سنة العراق يتوزعون في كل أرجاء البلد، مما يجعل تمييزهم في إقليم، أمراً تعسفياً، وعدا عن أنهم كانوا يعيشون في ظل تداخل طبيعي مع كل المجموعات السكانية الأخرى، فان أكراد العراق، سنة أيضا، ولكن ظل لهم ما يميز مطالب قومية خاصة أملت على «العرب المسلمين» مجتمعين أن يتوحدوا للحفاظ على وحدة العراق.
تجاهل هذه الحقائق كان يتطلب مشروعا تعسفيا، وأدوات وحشية، ودورا لقوة عظمى لكي يمكنه تبرير الحرب ضد كتلة بشرية بأسرها، لفرض «غلبة» مضادة تتمكن من سحقهم وتدميرهم وتسعى الى تهجيرهم والتنكيل بهم لصنع «ديمقراطية» ذات طبيعة طائفية، تُرضي غرور الأمريكيين، كما ترضي أحقاد وتطلعات طهران في آن واحد.
من وحشية هذا المشروع، ومن سعة جرائمه، ولدت داعش!
داعش، بالأحرى، تكملة طبيعية للمشروع الطائفي الإيراني. والوحشية والفحش التي يُظهرها «الدواعش» ليستا سوى رد فعل غبي على مشروع، أثبت لسنوات طويلة قبله، أنه وحشي وفاحش.